العمل السياسي بين الاستقلال والانتماء

د. يونس فنوش

تواجهنا كثيراً عبارة ترد على ألسنة بعض من نتوسم أنهم مثقفون وسياسيون، تقول إن أحدهم يفضل أن يكون مستقلاً، وأنه يتردد في الالتزام بالانتماء إلى إطار سياسي منظم، في شكل حزب سياسي.
وإني أزعم أن هؤلاء المثقفين يرتكبون خطأ فادحاً في تمييزهم بين الانتماء إلى حزب سياسي والاستقلال أو عدم الانتماء.. وذلك أني لا أرى دوراً للمثقف المهتم بالشأن العام وبالسياسة يمكن أن يلعبه إذا ظل يعمل بمفرده، فأقصى ما سيكون بوسعه أن يفعله، وهو يعمل بمفرده، هو أن يعبر عن رأي، بلسانه أو بقلمه، ولكن ذلك سيكون أثره محدوداً جداً، في حين أن المثقف الذي يختار العمل الجماعي المنظم، ويقرر الانتماء إلى إطار يجمع بينه وبين آخرين يتفقون معه في الرأي والعقيدة السياسية والرؤية الثقافية والاجتماعية لبناء الدولة وتنمية المجتمع، سوف يكون بوسعه أن يفعل الكثير، حين يجتمع جهده الفردي مع جهود آخرين، يقوي بعضهم بعضاً، وتثري جهود بعضهم جهود الآخرين. فينتج من ذلك عمل أكبر وأضخم وأوسع مدى من جهد أي منهم بمفرده.
وإني أزعم أن مفهوم الاستقلال في هذا المجال هو ضرب من الهروب من تحمل المسؤولية، ومن الالتزام بها تجاه الوطن والمجتمع. وقد أزعم أيضاً بأنه تأثر ببقايا من آثار الثقافة التي حرص القذافي على نشرها وترسيخها في نفوس الليبيين. وهي التي تؤدي بأحدهم إلى حد التبرؤ من الانتماء إلى حزب، وكأن الانتماء إلى حزب بات عيباً أو سبة يجدر بمن يريد السلامة أن يبتعد عنها، أو يتخلص منها.
وإني لن أمل من إعادة تأكيد قناعتي بأن الدولة، أي دولة تطمح لأن تستحق هذا الوصف، لا يمكن أن تقوم بدون تنظيم عملية التعايش السلمي بين أفراد المجتمع، وعملية الاختلاف في الرأي فيما بينهم، واللجوء عند الحاجة إلى حسم الاختلاف بآلية الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، والتسليم بما تسفر عنه النتائج من تغليب أحد الطرفين أو الأطراف المتحاكمة، عند حصوله على موافقة أو تأييد الأغلبية.
وينبني على هذه القناعة أن الأفراد الذين يؤمنون برأي واحد أو رؤية واحدة، لن يستطيعوا أن ينافسوا، فيكسبوا التأييد والدعم لرأيهم ورؤيتهم، إلا إذا تجمعوا معاً، وكونوا قوة سياسية تعمل على أن تكون قادرة على كسب قناعات الناخبين وتأييدهم. ولا تعريف لهذه القوة السياسية إلا إطار الحزب السياسي.
ومن ينأى بنفسه عن الانتماء ِإلى قوة سياسية، يرى أنها تعبر عن رأيه ورؤيته وقناعاته، سوف يحكم على نفسه بأن يبقى فرداً أعزل من القوة السياسية، لا تأثير له ولا قدرة على إيصال رأيه ورؤيته.

مشاركة المرأة: مسألة تخلف ثقافي واجتماعي أم مسألة قانون وتشريعات

د. يونس فنوش .

أخذت نغمة الحديث عن ضرورة تحديد نسبة معينة في قانون الانتخابات تخصص للنساء، وهو ما يعرف بفكرة (الكوتا) تزداد قوة وارتفاعاً، فتجاوزت حدود الأحاديث والمقالات التي تنشر في الصحف والمواقع الإلكترونية، إلى تشكيل هيئة سميت (هيئة دعم مشاركة المرأة في القرار السياسي)، ثم ها نحن أولاء نراها تأخذ مكانها في المشروع المقترح لقانون انتخابات المؤتمر الوطني.

هنا بات الأمر بحاجة إلى وقفة جادة وحازمة، فالمسألة، بكل تأكيد، ينبغي ألا تمر هكذا بسهولة، لأنها أبعد وأخطر من كونها مجرد خلاف على حدود تلك النسبة التي تخصص للنساء، أهي 10%، أم 30% كما تطالب بها بعض النساء، أم هي 50% كما سن لنا قانون الانتخابات في تونس سابقة في هذا الخصوص، فالمسألة، في نظري، هي مسألة ثقافة وحضارة قبل أن تكون مسألة قوانين وتشريعات.

ولنعرض المسألة على بعض النظر والتحليل. ولنبدأ من تأكيد فكرة أن المشاركة السياسية هي حق للمواطن، بصرف النظر عن جنسه ولونه وثقافته ولغته وطائفته، ومن ثم فالمرأة والرجل في هذا الخصوص متساويان تماماً، وينبغي أن يتأكد ذلك في نصوص الدستور منذ البدء، بالنص في مقدمة الدستور على كفالة جميع الحقوق والحريات السياسية والاقتصادية وغيرها لجميع المواطنين على قدم المساواة دون تمييز. فإذا تم هذا فإننا سوف نتفق على أن المرأة لها ذات الحقوق السياسية التي للرجل، فلا يصدر قانون أو تشريع يمنعها من ممارسة ذلك الحق: في الترشح لمختلف المواقع والمسؤوليات، وفي المشاركة في عمليات الانتخاب، ثم ننظر بعد ذلك في سائر الأسباب والظروف التي جعلت أو تجعل مشاركة المرأة في العملية السياسية تكون أقل من مشاركة الرجل.

إن أدنى نظر إلى هذه المسألة سوف يقودنا إلى تبين أن المشكلة في أصلها وصميمها ترجع إلى أسباب ثقافية وحضارية، قبل رجوعها إلى القانون أو التشريع. وذلك أننا، كسائر الشعوب المتخلفة، ما زلنا نرزح تحت وطأة عقود من التخلف الثقافي والاجتماعي الذي يؤدي إلى أن تكون المرأة أقل تأهلاً من حيث مستوى التعليم أو الثقافة العامة لإدراك أبعاد المشاركة في الشأن العام، ويؤدي إلى ما هو أخطر من ذلك وهو الحد من حرية المرأة في ممارسة وجودها السياسي، من آثار التركة التي ما زالت تعانيها مجتمعاتنا، بسبب تحكم الرجل فيها وفي حريتها وحركتها، سواء أكان هذا الرجل أباها أو زوجها أو أخاها وأحيانا حتى ابنها.

وإننا نشاهد في التطبيق العملي كيف تتجسد هذه المسألة بشكل مؤسف وفاجع، إذ تنتهي تلك الآلاف المؤلفة من الفتيات اللاتي تكتظ بهن قاعات ومدرجات الجامعات، حالما ينتهين من الدراسة، إلى البقاء في البيوت، بسبب تعنت الآباء أو الأزواج أو الإخوة الذكور، ويجدن أنفسهن محرومات حتى من حقهن في المشاركة في الفعاليات الثقافية أو الاجتماعية العامة.

أما ما نشاهده من تكدس النساء في مواقع العمل، فهو لا علاقة له مطلقاً بمستوى وعي المرأة أو حريتها، وإنما هو مجرد خضوع إجباري لضغط الحاجة لتوفير دخل مالي تساهم به مجبرة في كثير من الأحيان، في تغطية تكاليف المعيشة. ولو درسنا الأمر دراسة علمية منهجية فسوف نكتشف أن مصير هؤلاء النسوة سوف يكون، لو انتفت هذه الحاجة المادية، هو المكوث في البيت والانعزال عن الحياة السياسية والاجتماعية.

من هنا فإني أرى أن دور النساء اللاتي ينادين، بل يخضن حرباً ضروساً من أجل تطبيق فكرة الكوتا للنساء، يجدر أن يتجه إلى المساهمة في ترقية المستوى الثقافي والحضاري للمجتمع كله، حتى نبلغ الحدود التي نسعى إليها من وعي المواطن الليبي، رجلاً كان أم امرأة، بأهمية المشاركة في العمل السياسي، فنرى الرجال والنساء، على قدم المساواة، يشاركون في مؤسسات المجتمع المدني، وفي الأحزاب السياسية، ثم يمارسون حقهم في الترشح للمواقع المختلفة، وفي عمليات الاقتراع التي تتم عليها.

وهذه الفكرة تقودني تلقائياً إلى الخلوص بنتيجة أراها لازمة، وهي أن آمالنا في تحقيق أي تقدم في اتجاه تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، سوف تعتمد على مدى قدرتنا على تحقيق تقدم ملموس في ترقية مستوى الوعي السياسي لدى المواطنين، وفي مقدمة ذلك الوعي بأهمية المشاركة الإيجابية في العمل السياسي المنظم، من خلال الأحزاب السياسية.

وقد عبرت في تعليق سابق لي على صفحة الفيسبوك عن قناعتي بأن الحل الأمثل والأكثر فعالية في هذا الخصوص هو في دعم مسيرة العمل السياسي المنظم، وحث المرأة على المشاركة في الأحزاب السياسية، فتأخذ موقعها في صفوفها، ثم تأخذ نصيبها الذي تستحقه في الترشح للمواقع داخل الحزب أولاً، ثم للمواقع المختلفة في الانتخابات البرلمانية والمحلية. وإذا ما أثبتت جدارتها وحظيت بدعم بنات جنسها، فلعلها تحصل على أكثر من نسبة الثلاثين في المائة التي تطالب بها أكثر المتحمسات لهذه القضية.

دعونا نحلم

د. يونس فنوش

الأعمال الكبيرة تبدأ دائماً بحلم يراود شخصاً أو أشخاصاً، يؤمنون به وبفائدته للحياة وللأحياء.. ثم يسعون بكل ما لديهم من جهد ومال ووقت لجعله حقيقة ملموسة على أرض الواقع..

وليبيا القادمة هي الآن شذرات أحلام تراود فكر وخيال نخبة من أبناء الوطن، سوف يتوقف تحققها على أرض الواقع على قدرتهم على اجتياز حالة الإحباط واليأس ونقص الثقة في الذات، وإصرارهم على تجاوز العقبات والصعاب، حتى يروا حلمهم متحققا فعلاً على أرض الواقع، فيحق لهم آنئذ أن يرددوا قول الشاعر:

فإذا الحلم حقيقة      والأماني إرادة

ــــــــــــــــــ

الحلم الثاني عشر

مجتمع خال من المتسولين

لا شك أن مشاهدة مواطن يمد يده يتسول الصدقات من الناس مؤلم وموجع، لا سيما إذا تبين أن هذا المواطن يلجأ إلى التسول، لا حيلة للكسب السهل، ولكن لأنه بالفعل لا يجد ما يسد حاجة معيشته، سواء أكان فرداً أم عائلاً لأسرة.

إن هذه الحالة تفرض علينا أن نسأل أنفسنا، لماذا يسمح المجتمع بأن يصل أحد أبنائه إلى هذا الحد من الحاجة، ولابد أن يتبين عند البحث أن هذا المواطن لا يخلو من أن يكون عاجزاً عن العمل لكسب العيش بنفسه، أو أن ما يحصل عليه من عمل ما يمارسه لا يكفي لسد حاجاته وعائلته. وفي كلتا الحالتين فعلى المجتمع واجب حتمي لا تجاوز عنه، هو أن يكفل له ما يكفيه للعيش عيشاً كريماً.

وقد كتبت منذ عدة سنوات إن لدينا في تاريخنا الإسلامي أمثلة رائعة على شعور الحاكم بالتزامه برعاية شؤون رعيته، فيفعل ما ينبغي لسد حاجتهم، لا سيما إذا كانوا غير قادرين على الوفاء بها بأنفسهم، لعجز أو مرض أو شيخوخة.. ولنا في المأثور عن سيرة الخليفة عمر بن الخطاب، والخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز أمثلة رائعة مدهشة، فقد بلغ الأمر في عهد عمر بن عبد العزيز، أن يعود عماله المكلفون بتوزيع الأعطيات والمنح للمحتاجين في أنحاء دولته، ليقولوا له إنهم لم يجدوا محتاجاً يعطونه، فيأمرهم بأن ينثروا الحب على قمم الجبال، كي تجد الطيور ما تأكل.

واقتباساً من هذا المأثور الرائع وضعت اقتراحاً تقدمت به لعدة جهات رسمية، بإنشاء جهاز خاص، سميته (جهاز الشرطة الاجتماعية)، وإذا شئنا الابتعاد عن مفردة (الشرطة) فلعلنا نسميه (جهاز التكافل الاجتماعي)، تكون مهمته متابعة الأحوال في المدينة أو المنطقة المكلف بها، وحين يجد امرءاً يتسول الناس، سواء في مفترقات الطرق، أو على أبواب المساجد والمصارف مثلاً، يأخذونه إلى قسم مختص بالدراسة الاجتماعية، فيدرس المختصون حالته، ليتبينوا إن كان فعلاً محتاجاً، لأي سبب من الأسباب، فيحال إلى صندوق التكافل، ليفرض له معاشاً يكفي لسد حاجته وأسرته إن كان يعيل أسرة.

وفي السياق نفسه تحدثت عن فكرة متابعة ظاهرة وجود الأطفال في سن الدراسة خارج مقاعد الدراسة، إما يتسولون بشكل مباشر أو غير مباشر، أو يضطرون لممارسة أعمال شاقة من أجل الكسب. وجعلت متابعة أحوال هؤلاء الأطفال من اختصاص جهاز التكافل الاجتماعي، فينظر الجهاز حالة كل طفل، ليعرف الأسباب وراء وجوده خارج الفصل الدراسي، ويدرس حالته وحالة أسرته الاجتماعية، وإذا تبين أن الأسرة تدفع بأطفالها إلى التسول أو إلى سوق العمل بسبب الحاجة، فيكون على المجتمع أن يقوم بواجبه لكفالة هذه الأسرة، بما يتيح للطفل أن يواظب في مدرسته، ولا يضطر للخروج منها.

فهل لنا أن نحلم ببلوغ ذلك المجتمع الذي لا نعود نرى فيه متسولاً أو طفلاً في سن الدراسة خارج الفصل الدراسي؟

استراتيجيات وسياسات وبرامج الاسكان في ليبيا ( 2017-2001)(التقييم، تصويب الانحرافات، والتقويم)

د. موسى عبدالله قريفه .

 هذا المقال يعتبر استكمالا، وجزء من مقالي “استراتيجيات وسياسات وبرامج الاسكان في ليبيا (1952-2000)” . المقالان يستعرضان بالدرسة والتحليل استراتيجيات وسياسات الاسكان في ليبيا مند الاستقلال وحتى اليوم، ويهدفان الى تقييم السياسات السابقة، وتصويب الانحرافات، توطئة لبلورة أستراتيجية وطنية لقطاع الاسكان  والمرافق، واعادة الاعمار بعد انفراج الازمة  في ليبيا ان شاء الله.

مع بداية العقد الاول من القرن الواحد والعشرين، وبعد تسوية مشكلة لوكوربي (1999-2003)، ورفع الحصارالاقتصادي ظهر توجه  سياسي وضع التنمية العمرانية بشكل عام، و قطاع الاسكان والمرافق بشكل خاص من الاولويات في استراتيجيات وسياسات الدولة. في العام 2004، تم إنشاء الهيئة العامة للبنية التحتية، وجهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق  في العام 2006، والمؤسسة العامة للاسكان  وامانة (وزارة) اللجنة الشعبية العامة للمرافق عام 2008، إضافة الى دعم أجهزة ذات عللاقة بالتنمية العمرانية والاسكانية أهمها جهاز تطوير المراكز الادارية، ومصرف الادخار والاستثمار العقاري، وشركات التهيئة العمرانية. أُعدت حزمة من الاستراتيجيات والسياسيات والبرامج من قبل الهيئة العامة للبنية التحتية، وجهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق، وُشروع في تنفيذها. أهم الاهداف كانت تطوير البنية التحتية، ومواجهة مشكلة الاسكان والمرافق العامة. تميزت استراتيجية وسياسيات وبرامج الاسكان في القرن الواحد والعشرين التي طرحها وشرع في تنفيذها جهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق برؤية تصميمية وتخطيطة ذات ابعاد اجتماعية وثقافية وحضرية، حاولت التعامل مع الاسكان كمنتج ثقافي، ومنظومة عمرانية اجتماعية ثقافية متكاملة ومستدامة، مع الربط ما بين الاسكان كحاجة انسانية والعمل كنشاط اقتصادي، بالتالي، اعتمدت بناء مدن وقرى ومجاورات حضرية جديدة ترسخ الاندماج الاجتماعي، وتعكس الهوية البيئية والثقافية والمعمارية الليبية في مشهد عمراني معاصر. كما شملت برامج تطوير البنية التحتية، والارتقاء بالمناطق المتدهورة عمرانيا داخل المدن.

استراتيجيات  وسياسات وبرامج الاسكان مع بداية هذا القرن كانت محصلة لعملية تقاطع  بين استراتيجية التدخل المباشر للدولة في قطاع الاسكان والتنمية العمرانية(Direct state-Intervention) ، وإستراتيجية التمكين (Enabling Housing Strategy). الاولى تم  تطبيقها خلال الفترة (1960-1985) من القرن الماضي؛ وخلالها كانت الدولة ضامن للسكن، أما الثانية فقد تم التوجه لتطبيقها مند النصف الثاني من عقد الثمانينات من القرن الماضي ولعبت فيها الدولة دور  المساعد، والضامن للبيئة والسوق بدعم القوانين والتشريعات المشجعة للاستثمار في قطاع الاسكان والمرافق والتنمية العمرانية.

أسباب عديدة اقنعت راسمي السياسات الاسكانية على التوجه للدمج بين الاستراتيجيات والسياسات الاسكانية المختلفة؛ أهمها؛ الضغط الاجتماعي الكبير الناتج عن العجز السكني المتراكم في عدد الوحدات السكنية نتيجة عدم القدرة على تنفيذ المستهدفات الاسكانية خلال العقدين الاخيرين من القرن الماضي، وانتشار ظاهرة احياء الاسكان العشوائي. تشكلت رؤية سياسية داعمة للتدخل المباشر في قطاع الاسكان والمرافق من جديد بهدف امتصاص الضغط الاجتماعي ، والعجز السكني المتراكم، وتحديث وتطوير البيئة العمرانية، ومعالجة الاحتقان الشعبي، والظواهر الاجتماعية السلبية ذات العلاقة بازمة قطاع الاسكان.

من المحاولات الجريئة لمواجهة مشكلة الاسكان والبنية التحتية، خطة جهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق الاسكانية التي عرضها الجهاز في عام 2006، وتم اعتمادها. استهدفت الخطة تنفيذ  200000 وحدة سكنية على شكل أحياء سكنية ، وقرى ومدن ومجاورات سكنية جديدة مع المرافق المتكاملة. باشر الجهاز في التعاقد على تنفيذ مشاريعها مع مئات الشركات الليبية والاجنبية. حددت الخطة اطارا نظريا ومشهدا عمرانيا ومعماريا للمسكن والحي والمدينة والقرية الليبية في القرن الواحد والعشرن؛ بيئة عمرانية معاصرة، منتميىة للمكان ومرتبطة بالتاريخ والتراث العمراني. كما اهتمت بالعوامل التي تساعد على تحقيق التنمية المتوازنة المستدامة، والربط بين العمل والسكن، والثحديث والتطوير العمراني، كانت غايتها انتاج بيئة سكنية وعمرانية مستدامة بيئيا وإجتماعيا وأقتصاديا.  وأوصت الخطة بتبني حزمة من الاساليب لتحقيقق الغايات والاهداف أهمها التركيز على برامج التهيئة العمرانية، وابتكار حلول وانماط تخطيطية وتصميمية تتناسب والمكان وتاريخة، وتطوير مواد وأنظمة بناء معاصرة وإقتصادية، وتحديث وتطوير المدن والمناطق المتدهورة عمرنيا. كذلك، في العام 2009، عرضت امانة اللجنة الشعبية العامة للمرافق سابقا (وزارة الاسكان) رؤية وخطة لتحديث وتطوير البنية التحتية، والمرافق العامة، والارتقاء بالبيئة العمرانية، والتخلص من القمامة والمخلفات، والبيئة والمياه، وتزويد المناطق الحضرية بالطاقة. للاسف، واجهت الخطة الاسكانية لجهاز تنفيذ مشروعات الاسكان، وكذلك خطة امانة (وزارة) المرافق عديد المعوقات التي حالت دون بلوغ الاهداف المخططة، كما توقف تنفيذ الخطط والمشاريع المتعاقد عليها نتيجة للاحداث المصاحبة للتغيير السياسي في 17 فبراير، وما بعدها من أزمات وتداعيات تتعلق بالازمة السياسية، والانفلات الامني، وضعف وانقسام مؤسسات الدولة.

 بعد التغيير السياسي في عام 2011، أستمر الاهتمام بقطاع الاسكان والمرافق، والحرص على متابعة إستكمال الخطط السابقة، والمشاريع الاسكانية المتوقفة برغم الظروف الامنية الصعبة. هيكل الحكومات الانتقالية الاولى (2012)، والثانية (2012-2014)، وما بعدها من حكومات منقسمة (2014-حتى تاريخه)، كانت وزارة الاسكان والمرافق أو الهيئة العامة للاسكان من ضمن الوزارات او المؤسسات المكونة لهيكل الحكومة. برغم كل ما تم من محاولات متواضعة لادارة عجلة المشاريغ المتوقعة، مازالت مشاريع الاسكان والمرافق والبنية التحية متوقفة. لاشك استمرار توقفها سيؤدي الى ظهور عيوب انشائية في الاجزاء المنفذة منها، ويزيد من صعوبة عودة الشركات المتعاقدة على تنفيذها والقبول باستكمالها بنفس الشروط التعاقدية، اضافة الى قيام بعضها برفع قضايا أوالمطالبة بتعويضات مقابل حالة الظروف القاهرة وما ترتب عليها من تداعيات، و التي أرغمتها على ايقاف العمل بالمشاريع المتعاقدة على  تنفيذها. يجب الاشارة الى انه وبرغم الظروف الاقتصادية والامنية  السائدة في البلاد مند عام 2011 فان نشاطات قطاع الاسكان الشعبي/الاهلي (Informal Housing Sector) قد ازدهرت بشكل ملفت جدا، وشيدت عشرات الالاف من الوحدات السكنية الخاصة بشكل عشوائي، الا ان ارتفاع اسعار مواد البناء والعمالة نتيجة لتراجع قيمة الدينار الليبي، وانعدام السيولة النقدية قد أثرت على نشاطات بناء المساكن الخاصة بشكل واضح مند حرب فجر ليبيا وتداعياتها الامنية والسياسية والاقتصادية والعمرانية. في المقابل، تعرضت نسبة معتبرة من الرصيد السكني والعقاري على المستوى الوطني للتخريب أو التدمير الجزئي او الشامل نتيجة للحروب السياسية (فجر ليبيا) او تلك الى مازلت مشتعلة لليوم لمواجهة الجماعات المتطرفة.

خلاصة استعراض  استرتيجيات الاسكان والمرافق، والبنية االتحتية في ليبيا مند الاسنقلال (1952) وحتى اليوم تبرهن ان الدولة الليبية أهتمت مبكرا بقطاع الاسكان والمرافق؛ ولم تكن ليبيا استثناء بين دول العالم النامي، فقد طُبقت اغلب استراتيحيات وسياسات وبرامج الاسكان التي اعتمدتها عديد الدول في العالم، الا ان ما ميز التجربة الليبية النظرة الفكرية والايدولوجية للمسكن، ونشاط المقاولات وما رفقهما من تطبيق لاجراءات تشاركية أترث تأثيرا سلبيا على هيكلية قطاع الاسكان وتشاط قطاع المقاولات الليبي، وسوق الاسكان والعقارات (1981-2000). كما لم تتمكن الدولة الليبية خلال تاريخها الاسكاني من تحقيق الاهداف والغايات الاسكانية المخططة لعدة أسباب، أهمها، ضعف الادارة  وتفكيكها تحت فلسفة الجمهرة، والزحف الشعبي وتغيير القوانين، وعدم إستقرارها، هيمنة الشركات الاجنبية، والقطاع العام على نشاطات البناء والتشييد، غياب وضعف قطاع المقاولات الوطني، الاوضاع السياسية والاقتصادية وما صاحبها من حصار سياسي وإقتصادي، وانخفاض اسعار النفط وتراجع ايراداته ، إرتفاع معدلات التضخم،،و تطبيق الاجراءات الاشتراكية فيما يخص المسكن من حيث الملكية والايجار. اضافة لحل قطاع المقاولات الوطني واعادة تنظيمه على أساس تشاركي، وضعف برامج توفير الاراضي الحضرية، والمخططات الصالحة للبناء، غياب سياسات التهيئة العمرانية (Site and Service) S&S، وعدم تحديث وتطوير العقود، وادخل انظمة تعاقدية جديدة مثل D&B (Design and Build) و D.B.O (Design, Build and Operation) والشراكة بين القطاع العام والخاص P&P (Public and Privateعند التعاقد على تنفيذ المشاريع الاسكانية والبنية التحتية. كل العوامل السابقة عملت مجتمعة او منفردة على عدم قدرة  الدولة والمجتمع على  السيطرة على مشكلة الاسكان والمرافق، وبالتالي ظهورها كمشكلة قابلة للتفاقم والخروج على السيطرة في حال عدم منحها الاهتمام والاولوية في استراتيجيات وخطط التنمية.

 لذا فان الاستراتيجيات والسياسات والبرامج الاسكانية حلال النصف الاول من القرن الواحد والعشرين سوف تعتمد على الاستثمار المباشر للدولة، والشراكة بين القطاع العام والخاص ، وتبني استراتيجية التمكين والمساعدة غير المباشرة للدولة Enabling Housing Strategy.  في نشاطات قطاع الاسكان والبنية التحتية وبرامج التطوير العمراني والارتقاء بالبيئة العمرانية.  اذا ما تحسنت الظروف الامنية، واستعادت الدولة هيبتها يتوقع ان يجذب سوق الاسكان والعقارات رأس المال الوطني والاجنبي للاستثمار في مشاريع الاسكان والبنية التحتية والعقارات.

معالجة مشاكل مشاريع الاسكان والمرافق والبنية التحتية المتوقفة ستكون من أكبر التحديات التي ستواجه الدولة الليبية ما بعد الازمة الحالية.كما ان مشاريع اعادة الاعمار للمدن والاحياء المتضررة سيكون من الملفات الساخنة والهامة خلال العقد القادم؛ ويتطلب ذلك الاستعانة ببيوت خبرة إستشارية متخصصة، والاستفادة من تجارب دول مرت بازمات وظروف مماثلة، وجهدا وطنيا استثنائيا، وسنوات من العمل المخطط والمتواصل.  الخلاصة، مشكلة الاسكان والمرافق والارتقاء بالبيئة الحضرية، واعادة الاعمار وفق المعايير المعاصرة، والهوية الثقافية والحضارية للمجتمع الليبي، والبيئية والمناخية للمكان ستكون من التحديات الكبرى التي ستواجه الدولة الليبية خلال العقود القادمة. في المقابل ستكون عامل من عوامل استقرار البلاد وازدهارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وترسيخ ثقافة مؤسسات الدولة، وقيم العدالة الاجتماعية، واعادة بناء وتطوير المقاولات الليبية، وصناعة البناء والتشييد اذا ما أُحسن التخطيط و التوظيف الايحابي لنشاطات قطاع الاسكان والمرافق والعقارات. الكلمة الاخيرة في هذا المقال، إعادة تقييم الاستراتيجيات والسياسيات والخطط والبرامج الاسكانية السابقة، ووضع إستراتيجية إسكانية جديدة وفق المتغيرات والمعطيات السياسية الجديدة أصبح ليس سؤالا بل ضرورة و أولوية من أولويات عمل مؤسسات الدولة الليبية حال اعادة توحيدها وحضورها وهيبتها.

انتعاش قطاع الاسكان والعقارات في ليبيا عامل داعم للحل و الاستقرار السياسي

  • د.موسى عبدالله قريفة
  • باحث واستشاري في سياسات  الاسكان وصناعة البناء والتشييد

بادئ ذي بدء، لا جدال ابدا في اهمية المسكن والعقار كنشاط اجتماعي واقتصادي وحضاري، وحاضنة عمرانية للانسان والاسرة، ونواة لبناء وتماسك المجتمع، وترسيخ قيم الدولة. لذا يحظى المسكن بموقع متميز في الثقافة والاعراف الانسانية و الليبية، وكذلك من حيث القيمة الاقتصادية. المؤسف ان المسكن دخل في دائرة الصراع السياسي بعد احداث 2011؛ اذ اصبح وسيلة من وسائل الانتقام الاجتماعي والمعنوي والمادي، وتعرض للتدمير والحرق، وساكنه للتهجير الممنهج، كما ان نسبة معتبرة يمكن تقديرها مبدئيا ما بين 20-30% من الرصيد السكني التراكمي في ليبيا تعرض للتدمير الجزئي او الشامل نتيجة للحروب والاشتباكات العارضة التي حصلت اتناء وبعد أحداث عام 2011. وصل اداء قطاع الاسكان والمرافق والعقارات بشكل عام الى مؤشرات مُخيبة ومرعبة من حيث التراجع الحاد في معدلات الانفاق الاستثماري، ومعدلات الانتاج والنمو السنوي، وارتفاع العجز التراكمي من المساكن ليتجاوز 300 الف وحدة سكنية. يهدف هذا المقال الى لفت انتباه الساسة، و راسمي السياسات ومتخدي القرار الى اهمية قطاع الاسكان والعقارات بشكل خاص، وقطاع البناء والتشييد بشكل عام في اعادة تطبيع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اتناء وبعد الحروب والازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى تمر بها المجتمعات والدول.

بعد التغيير السياسي في ليبيا عام 2011،  انخرط الجميع في العمل والمماحكات السياسية التي فرضتها طبيعية الاحداث الدراماتيكية، تطور لمستوى الصراع المسلح المدمر. بالتالي، توقف العمل بالمشاريع التنموية وهي في ذروة نشاطها الانشائي، و تعطلت عجلة التنمية بشكل مباغث وغير متوقع، وغادرت الشركات الاجنبية وعمالتها البلاد على عجل. تعرضت لاحقا بعض مقرات الشركات والمشاريع لاعمال تخريب، والالات والمعدات لاستخدام جائر نتيجة انهيار المنظومة الامنية، وتراجع هيبة الدولة.

للاسف، بعد سقوط النظام السياسي، اعتقد البعض خاطئا ان الرهان على التموضع السياسي أهم بكثير من  الرهان على  استمرار التنمية العمرانية الشاملة،، وغاب على الساسة وراسمي السياسات ان الزمن تنمية، والوقت لا ينتظر الانسان أو المجتمعات أو الدولة المأزومة، و ان اتجاه ورحلة عربة فوضى الصراع الاجتماعي والسياسي طويلة وشاقة و تسيرعكس عقارب الزمن والتنمية، وعملية تغيير وضبط اتجاهها يحتاج لعقود من التغيير الثقافي والتنمية والتنشيئة السياسية. حتما في النهاية، سيصاب الجميع بالدوران وفقدان التوازن التنموي، ويدركون حجم الخسارة التي لحقت بالجميع.

الخلاصة، الازمة والفوضى السياسية التي نعيشها مند عام 2011 وحتى اليوم عطلت التنمية الاسكانية والعقارية؛ إذ تدني معدل قيمة الانفاق االتنموى والاستثماري السنوي في قطاع العام والاهلي/الخاص، وتراجع مؤشر النمو السنوي في نشاطات قطاع الاسكان والعقارات بشكل حاد وغير مسبوق، واقتصر النشاط على بناء المساكن والعقارات العشوائية من قبل القطاع الاهلي. لا شك حالة الركود المتواصل في نشاطات قطاع البناء والتشييد بشكل عام وقطاع الاسكان والمرافق بشكل خاص سينتج عنه حزمة من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والامنية المتراكمة في المستقبل.

على الرغم من إستمرار الصراع السياسي، وانقسام مؤسسات الدولة، فان ادارة الازمة الاسكانية والعمرانية، و رصد ابعادها الانية والمستقبلية تتطلب التخطيط والعمل المبكر، و الشروع من الان في دراسة وتحليل الاثار والتحديات والاختناقات المتوقع حصولها خلال العقود القادمة في قطاع الاسكان والعقارات، واعداد الاستراتيجات والسياسات والبرامج الطويلة والقصيرة المدى بهدف اعادة انعاش واعمار قطاع العقارات والاسكان والمرافق الان و بعد تجاوز الازمة. تجارب الدول التي مرت بحروب وازمات سياسية واجتماعية وعمرانية تبرهن على ان التعامل مع واقع ما بعد الازمة يبدأ في الحقيقة اتناء الازمة، و يتم منهجيا باعداد واعتماد استراتيجية وطنية شاملة تضم حزمة متكاملة من السياسات والبرامج والاجراءات والقوانين الاستثنائية هدفها اعادة تنظيم النشاطات الاقتصادية بشكل عام، وقطاع الاسكان والعقارات بشكل خاص، وضخ استثمارات مالية ضخمة لانعاش الاقتصاد على المستوى الوطني والاقليمي والبلدي، وتسريع نشاطات قطاع البناء والتشييد كما حصل في المانيا واليابان وانجلترا وغيرها بعد الحرب العالمية الثانية، ولبنان والبوسنة بعد الحروب الاهلية وغيرها من التجارب التي لا يتسع المجال هنا لاستعراضها، .يتطلب الامر دراستها واستخلاص الدروس، والاستفادة من الخبرة الانسانية المتراكمة في مجال اعادة تدوير عجلة مقطورة قطاع الاسكان والمرافق لدفع وتحريك قطار التنمية الشاملة، ودعم الحل السياسي واستدامته، والمساهة في اعادة بناء هياكل ومؤسسات الدولة.