الحزبية: ليست خيانة .. بل هي الحل؟
بقلم د. يونس فنوش
على مدى أربعة عقود من الزمن ظلت آلة القذافي الدعائية تدق على عقول الليبيين بترديد مقولات صُمِّمت على نحو مقصود ومُبَرمج لتغرس في نفوسهم جملة من القناعات والأفكار، كان أهمها وأخطرها على الإطلاق تلك المقولات التي تتعلق بتصوير الانتماء إلى الأحزاب السياسية على أنه عمل مضاد لمعنى الوحدة الوطنية، وأنه قرين التعصب والتجزئة، التي تؤدي على نحو لازم، كما ظل القذافي يدَّعي ويروج، إلى تفتيت وحدة الشعب وسلطته، التي يقول إنها “لا تتجزأ”.
وينبغي أن نكون موضوعيين في حكمنا على مدى نجاح ذلك المخطط الدعائي الفكري الذي جند له القذافي، ووظف من أجله ما توفر تحت يديه من قدرات وإمكانات بشرية ومادية، فنعترف بأنه نجح إلى حد كبير في غرس تلك القناعات المضادة لفكرة الحزبية والتحزب في نفوس أبناء الأجيال التي ولدت وعاشت وترعرعت في ظل حكمه، حتى أننا نشاهد الآن بكل وضوح كيف أن مجرد التلفظ بكلمة (حزب) أو (تحزب) يحدث لدى المتلقي، مستمعاً أو قارئاً، ردة فعل تلقائية، من النفور والتحفز والرفض، نتيجة ما يحضر إلى ذهن المتلقي وروحه على الفور من معاني الخيانة، التي ارتبطت بمقولة (من تحزب خان)، وإيحاءات السلوك السيئ المرفوض، التي ارتبطت بمقولة (الحزبية إجهاض للديمقراطية). وحيث إن المواطن الذي يريد أن يكون مواطناً صالحاً سوف يكون حريصاً على نفي صفة الخيانة الوطنية عن نفسه، وسوف يتجه إلى رفض أي سلوك معاد للديمقراطية، فإنه سوف يجد في نفسه ذلك النفور العاطفي التلقائي من فكرة الحزب والحزبية.
وإني على قناعة قوية راسخة بأن علينا أن نضع من الخطط، ونبذل من الجهود، ما بوسعنا وضعه وبذله، كي نخوض حرباً فكرية إيديولوجية، تهدف أساساً إلى مكافحة مخلفات حملة القذافي الإيديولوجية، فنسعى إلى مسح تلك الأفكار المغلوطة التي زرعها القذافي، وظل يرعاها وينميها على مدى سنوات حكمه الشمولي الاستبدادي، بهدف مقصود واحد هو حمل المواطنين على القبول بهيمنة الرأي الواحد، والنفور من أي فكر أو توجه لامتلاك رأي مخالف أو مختلف، ناهيك عن المخاطرة بالتفكير في التجمع مع آخرين حول رأي أو فكر، جعله القذافي منذ السنة الأولى لاستيلائه على السلطة يقع في دائرة الأفعال المجرمة قانوناً، والتي يعاقب مرتكبها بالسجن وربما الإعدام.
ومن هنا فإني أحث على أن نباشر حربنا الفكرية السياسية على هذا الصعيد بالدعوة والترويج لجملة من المقولات المضادة، أقترح على رأسها مقولة (الحزبية ليست خيانة، بل هي الحل)، ثم ندعم هذه المقولات بما يلزم من الشرح والتفصيل، كي نحفز المواطنين لإعادة النظر والتأمل في هذه المسألة، بأمل الوصول إلى ما يمكن الوصول إليه من ترسخ القناعات الجديدة، التي أرى أنها ستكون لازمة وحيوية في اتجاه مسعانا لتأسيس بديل لحكم استبداد الرأي الواحد، يقوم على أسس متينة من الوعي العميق بأن اختلاف الناس في الرأي هو أمر فطري طبيعي، وجد مع بني آدم منذ أن خلقهم الله مختلفين غير متساوين فيما أودع في عقولهم ونفوسهم من قدرات ومدارك وأحاسيس، وأن من غير الممكن، بل من أفدح الخطأ، محاولة طمس هذه الحقيقة أو تجاهلها أو مقاومتها، فهذه المحاولة هي أقصر الطرق لدفع أصحاب الآراء المختلفة في المجتمع للعمل سراً، وبعيداً عن رقابة القوانين والمجتمع، وذلك يقود بالضرورة إلى التنازع والتصارع العنيف، ويؤدي بالنتيجة إلى تهديد السلم الاجتماعي واستقرار الحياة السياسية.
إن التسليم بحق الناس في الاختلاف في الآراء والأفكار، وحقهم الطبيعي في امتلاك حرية التعبير عن تلك الآراء والأفكار، ثم حقهم في التلاقي للعمل سوياً بطريقة سلمية، لإقناع الآخرين بآرائهم هو الأساس الضروري لقيام مجتمع يتعايش فيه المختلفون في الرأي مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، شركاء على قدم المساواة في بناء المجتمع واتخاذ ما يتعلق بذلك من قرارات.
ومن هذا المنظور فإننا ندعو إلى أن يتبنى الليبيون منذ الآن مقولة إن “الحزبية هي الحل”، ونحثهم على ألا يترد أحدهم في التحزب للرأي الذي يراه، وفي ممارسة حقه في المشاركة في بناء الوطن، حملاً للأمانة الوطنية التي يلقيها على كاهله كونه مواطناً مسؤولاً عن المشاركة في القرار، وعليه عبء المشاركة مع سائر إخوانه المواطنين في تحمل هذه المسؤولية.