الحملة ضد الأحزاب السياسية هل هي عودة إلى ثقافة (من تحزب خان)؟

د. يونس الفنوش

بقلم د. يونس فنوش

كثرت في الآونة الأخيرة الانتقادات والاتهامات الموجهة ضد الأحزاب السياسية، وقد أخذت تزداد قوة وحدة، حتى باتت تقترب إلى حد كبير من تلك الحملة التي شنها الطاغية القذافي في بداية حكمه، تمهيداً لإحكام قبضته المتسلطة على مقاليد الأمور، حتى لا يعود ثمة صوت يرتفع إلا الصوت المؤيد له ولأفكاره وسياساته، وانتهت تلك الحملة إلى تقنين تلك الحالة وشرعنتها من خلال إصدار القانون سيء الصيت والسمعة الذي عرف بقانون (حماية الثورة)، الذي عرف أيضاً باسم (قانون تجريم الحزبية)، ثم جعل الفكرة مبدأ فكريا ثابتاً من خلال المقولات التي تضمنها الكتاب الأخضر (من تحزب خان) و(الحزبية إجهاض للديمقراطية).

ولا أدري ماذا نقول ونحن نسمع الآن، ونحن نخطو خطواتنا الأولى لتأسيس دولة الديمقراطية التي جاهدنا وكافحنا من أجلها، ودفعنا ذلك الثمن الباهظ من الدماء الزكية ومن التضحيات وشتى صور وأصناف المعاناة والآلام، من يتهم الأحزاب السياسية بأنها هي السبب في ما نعانيه الآن من تخبط وتعثر. وإني أصنف من يشاركون في هذه الحملة، ويرددون في إطارها مختلف أشكال النقد والتجريح والاتهام للأحزاب والحزبيين، إلى صنفين: الأكثرية تردد هذا الكلام وهي لا تدرك فحواه وأبعاده، وما ينطوي عليه من مخاطر على آمالنا الكبيرة في تأسيس دولة ديمقراطية، لا تقوم لها قائمة بدون أحزاب سياسية وبدون تعددية حزبية. وإلى جانب هذه الأكثرية هناك في تقديري فئة معينة، تتبنى هذا الطرح، وتقود هذه الحملة، مدركة أبعادها الحقيقية، ولكنها تقودها وتشارك فيها من منطلق السعي إلى تحقيق مصالح شخصية ضيقة، ربما تتضافر بعض الملابسات الآنية في خلق أوهام لديهم بأن أملهم في تحقيقها مرهون ببقائهم مستقلين، لا يحسبون على أي طرف أو حزب سياسي.

وبصرف النظر عن مصداقية أو حقيقة ما أطرحه في هذا الخصوص، فإني أحببت في هذه المقالة أن أرفع صوتي بالتحذير الشديد من مغبة الانزلاق والانجرار وراء هذه الحملة البالغة السوء، فأقول إن ما شاهدناه وعايشناه من تخبط وتردًّ في أداء الأحزاب السياسية التي كان لها وجود في المؤتمر الوطني العام، لا يعني بأي حال من الأحوال أن الأحزاب السياسية من حيث هي محكوم على أدائها بالتردي والتخبط والفشل. بمعنى أن فشل حزب أو عدد من الأحزاب في أداء عمله، يجب ألا يعني مطلقا أن الأحزاب فاشلة من حيث هي أحزاب، أو لأنها أحزاب. وحتى الحزب أو الأحزاب التي شاب أداءها نوع من التخبط أو الانزلاق إلى مصالح حزبية أو شخصية ضيقة، في مرحلة ما، وفي ظل معطيات معينة، يمكن، بل ينبغي أن تكون قادرة على تحسين أدائها، وإصلاح أخطائها، حتى ترتقي إلى مستويات أعلى من الأداء والفعل.

وهذا ما حدث مع الأحزاب التي وجدت نفسها، ربما دون أي قدر من الإعداد والاستعداد، تخوض معركة التجاذب السياسي في إطار المؤتمر الوطني، وتبين أنها لم تكن قد نضجت بعد بالقدر المطلوب والكافي لممارسة السياسة بقدر أكبر وأسمى من الروح الوطنية التي تغلب دائماً المصلحة الوطنية العليا على أي اعتبارات أو مصالح حزبية أو شخصية.

إن علينا أن نعي حقيقة أساسية مهمة، وأن نتفق عليها، وهي أن الديمقراطية الحقيقية لا تقوم إلا على دعامات أساسية هي الأحزاب، التي تتمكن من تأطير قوى المواطنين الأفراد في قوى سياسية منظمة، يلتقون في إطارها حسب الأهداف والرؤى الفكرية والسياسية التي يتفقون عليها، ويمارسون من خلالها حقهم الطبيعي في المشاركة في صناعة القرار العام، من خلال آليات التنافس السياسي، والركون إلى مبدأ تحكيم رأي الأغلبية، عبر آلية الاقتراع العام، وما تفرزه صناديق الاقتراع من نتائج تحدد الجانب الذي تؤيده الأغلبية، ومبدأ حصانة الأقلية من أي عدوان أو تغول من طرف الأغلبية، واحتفاظها بحقها الدستوري في ممارسة الوجود السياسي، والقيام بدورها في النظام الديمقراطي وهو ممارسة المعارضة السياسية الإيجابية، من حيث هي أداة أساسية للرقابة على أداء الأغلبية التي تكلف بممارسة السلطة التنفيذية.

وإني أخشى أن انسياقنا وراء هذه الحملة ضد الأحزاب السياسية سوف يقودنا حتماً إلى النتيجة التي خلص إليها القذافي، بقوله إن (الحزبية إجهاض للديمقراطية)، إذا انجررنا إلى القول بأن الأحزاب هي السبب فيما نعانيه من تخبط في الأداء وفشل في الممارسة. وإني أشبه ما يحدث لدينا حيال الأحزاب، بما يحدث لمن يراقب سلوك المسلمين السيئ، فيأخذ الإسلام ديانة وشريعة، بجريرة ما يرتكبه المنتسبون إليه من أخطاء وجرائم. وبالمثل فإن ما قد يرتكبه المنتسبون إلى أحزاب سياسية من أخطاء في الممارسة، أو بعد عن الروح الوطنية، يجب ألا يؤخذ على الحزبية نفسها، كآلية لتنظيم عمل المواطنين السياسي من خلال أطر منظمة مؤهلة لممارسة السياسة والمشاركة في عملية صنع القرار وتنفيذه.

ولقد ناديت منذ مدة بأن نواجه ثقافة القذافي تجاه الحزبية وتجريمها بمقولة تقابلها تقول (لا ديمقراطية بدون حزبية). وبالفعل لن يكون لنا أمل في تأسيس دولة ديمقراطية، بدون ترسيخ القناعة بالعمل الجماعي المنظم، من خلال الأحزاب السياسية، كأساس للممارسة الديمقراطية الناضجة، ثم السعي لتطوير أداء الأحزاب، حتى يرتقي إلى ما نأمله ونرجوه من أداء واعٍ راقٍ، يستطيع أن يتعالى فوق المطامع والمصالح الحزبية الضيقة، إلى آفاق المصلحة الوطنية العليا.