التكتل المدني الديمقراطي بين ارتفاع سقف التوقع وتعدد بؤر التحديات
بقلم أ.د.علي سعيد البرغثي
مقدمة:
استطيع أن اجزم منذ البداية أنني أتحدث عن مشروع يحلم بتحقيق مبادئه وأهدافه الكثير من أبناء الشعب الليبي، الذين يتطلعون لدولة مدنية ديمقراطية، تضم كافة أبناء الوطن دون إقصاء أو تهميش أو احتكار، ويحتكم جميعهم لدستور، يتساوي فيه المواطنون في التمتع بحق المواطنة، وتحافظ علي أمنهم واستقرارهم مؤسسة عسكرية وطنية محترفة.
وقد لا أكون مخطئاً في القول بأننا أمام مشروع، سيجد معارضوه صعوبة في إخراجه من قياساته الوطنية، ومع ذلك سيبقي التكتل جسماً صحياً بقبوله الاختلاف في الرأي، والاختلاف في ترتيب الأولويات، والأكثر من ذلك الاختلاف في وسائل التنفيذ.
ووجب القول في هذه المقدمة أن مشروع التكتل بني علي تراكم معرفي وقراءة واضحة لدروس وتجربة تاريخية ثرية لكثير من مؤسسيه، وانفتاح نحو من يؤمن بأن الشراكة في الوطن تعني أداء واجبات، قبل أن تكون اكتساب حقوق، وفحصاً معمقاً لحجم الفاتورة الباهظة التي دفعها أبناء هذا الشعب وقواته المسلحة.
وهنا يطرح السؤال: ما هي فرص التكتل في تحقيق أهدافه، مع ارتفاع سقف التوقع لأبناء الشعب الليبي، وفي ظل تعدد بؤر التحديات؟
للاجابة علي هذا السؤال يجب قراءة ثلاثة مشاهد حاكمة:
أولاً – المشهد السياسي:
إن التوافق علي تشخيص محدد للمشهد السياسي الليبي اليوم يحتاج لمعجزة، لأسباب انهيار جدار الفهم المشترك، وغلق نوافذ وأبواب قبول الرأي الآخر، والاصطفاف النوعي في مقابل رؤية الوطن.
ولهذا قد يكون من المناسب النظر للمشهد السياسي الليبي الراهن من خلال تحديد عناصر الإرباك المتعددة، رغبة في فك الارتباط مع وحدة التحليل المستخدمة اليوم، مع تسليط الضوء علي عناصر أخرى يتعارض فعلها في المشهد مع مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية.
وعلي هذا الأساس أعتقد أن المشهد السياسي الليبي تتجاذبه عناصر إرباك تتحرك في اتجاهات مختلفة وتتمثل فيما يلي:
1.عناصر مؤدلجة: وتضم كافة العناصر التي تتحرك وفق أهداف إيديولوجية محددة، وخصوصا تلك التي تحمل أفكاراً دينية متطرفة، لا تقبل الحوار أو التعايش مع الآخر.
2.عناصر إقصائية: وتضم العناصر التي منحت نفسها صفة الثورية، واكتسبت حقوقاً مميزة، تقصي بموجبها الآخرين، وتستخدم العنف للحفاظ علي مكتسباتها.
3.عناصر جهوية: وتضم العناصر التي تتحرك وفق تطلعات جهوية، وتحاول إضفاء صفة التميز في الحقوق باختزال الدولة في المدينة التي ينتمون إليها.
4.عناصر عرقية: وتضم العناصر التي تتحرك للمشاركة فى العملية السياسية من منطلق الشعور بحرمان من حقوق المساواة في العقود الماضية، والبحث عن روافع لتعديل هذا الشعور واكتساب حقوق مميزة في المشهد السياسي الراهن.
5.عناصر رافضة: وتضم عناصر لا تزال تحمل شعوراً بالاضطهاد والتهميش نتيجة تصنيفها ضمن مشروع العزل السياسي، الذي أراد من خلاله الإسلام السياسي إقصاء كل من عمل بالدولة الليبية خلال الأربعين سنة الماضية.
وفى اعتقادي أن عناصر الإرباك هذه، رغم اختلافها في تشخيص المشهد السياسي، إلا أنها تتفق في كونها لا تنظر لرؤية الوطن الشاملة، التي تعتبر الشراكة في الوطن أساساً لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية، ويكتسب فيها الجميع حقوقهم وفق مفهوم المواطنة، الذي يقدم الواجبات، ويتمسك بالحقوق.
وسوف تواجه أي تسوية سياسية صداماً حتمياً مع عناصر الإرباك هذه، ما لم يتم فرض حالة الأمن والاستقرار، التي ستقود دون شك إلى إعادة مؤسسات الدولة الليبية وهيبتها، ومن ثم إقرار حالة الأمن والسلم الاجتماعي.
وهذا يعني حاجة التكتل لتقديم رؤية وطنية شاملة، أساسها الالتفاف حول مبادئ دولة مدنية ديمقراطية، تتنكر لأي محاولة إقصاء، وتدعو إلى الشراكة في الوطن، وتتمكن من تجاوز عناصر الإرباك المهيمنة على المشهد الراهن. الأمر الذي يحفز على القول إن اختفاء عناصر الإرباك لا يمكن أن يتأتي دون عمل جاد، وقد يكون صعباً، يتمثل في إعادة الثقة لذهن المواطن بأهمية وحيوية العمل الوطني الجماعي المحدد المبادئ والأهداف، الذي حاولت الأطراف المنتفعة من المشهد الراهن تشويهه، وفى نفس الوقت تقديم مرافعة جادة بضرر العمل الفردي، في وقت اكتسبت فيه تنظيمات إيديولوجية أخرى صفة التنظيم المستقر.
ولهذا فإن دعوة التكتل إلى الالتفاف حول العمل الوطني الجماعي لتحقيق مبادئ وأهداف الدولة المدنية الديمقراطية يجب أن ترتبط بتطبيقات برامج مجتمعية، تعيد للمواطن الأمل، وتكسبه القدرة على التخلص من حالة الإحباط، والتوجه نحو المشاركة الفاعلة فى صنع المستقبل.
ثانياً- المشهد الإنساني:
تعبر حالة الإحباط والمعاناة التي يعيشها المواطن الليبي فى المشهد الراهن عن عمق الأزمة وسطوة حالة اليأس. وفى تصوري إن أي محاولة جادة لإنقاذ الشعب الليبي من هذه المعاناة لا يمكن أن تتحقق بالبحث في التسوية السياسية، وذلك لأن قسوة المشهد الإنساني تتجاوز مفهوم التسوية، الذي ينصب على المحاصصة فى اقتسام المكاسب بين الفرقاء. الأمر الذي يدفع للقول إن قدرة التكتل على تقدير هذا المشهد الإنساني، ووضع برامج تستجيب لتطلعات المجتمعات المحلية، وليست نابعة من فكر نخبوي منعزل، سيعيد الثقة فى جسم المواطن المحبط، ويمكنه صنع وإدارة مشاريع وبرامج إنقاذه. وهذا يعني أن العمل السياسي للتكتل يجب أن يكون ناتجاً لعطاء ونجاح عمله الإنساني الاجتماعي.
وفى تصوري إن التكتل ملزم بأولوية الفئات الأشد ضعفاً، وفى مقدمتها أسر الشهداء والجرحي والأرامل والمعاقين والعجزة وغيرها من الفئات الضعيفه. كما أنه ملزم بأولوية استثمار جهد وطاقة الشباب وفتح المجال لهم، لا للاستفادة من برامج التكتل فحسب، بل تمكينهم من قيادته.
ثالثاً – المشهد المؤسسي:
يمثل العمل التنظيمي للتكتل أحد أهم التحديات التي سيواجهها في ضوء مشهد سياسي ملتبس، ومشهد إنساني محزن، ورؤية مواطن محبط، يتنكر لكل عمل سياسي مؤسسي يذكره بتجربة مريرة شوهت الصورة لديها.
وفى تصوري إن قدرة التكتل على التغلب على هذه التحديات تتصل بإدراكنا جميعاً عمق العمل الاستراتيجي، وربط المفهوم المؤسسي للتكتل بالبرامج. وهذا يعني أن النقطة الحيوية اللازمة للتنظيم هو إقامة البرامج التي تستجيب لمتطلبات البيئة المحلية، وليس التواجد المؤسسي فقط، وذلك لأن قدرة المواطن على خلق البرامج وإدارتها يشكل تطبيقاً لمفهوم الشراكة، والأهم من ذلك مفهوم امتلاك مشروع التكتل.
وأعتقد أن نجاح أي عمل سياسي يعتمد على تقديم مسوغات القدرة على الاستجابة لمتطلبات المجتمع الانسانية والاجتماعية قبل السياسية.
الخلاصة:
يتصل نجاح مشروع التكتل بإدراك عميق للمشهد السياسي الراهن وعناصر إرباكه، والأهم من ذلك قدرته على إعادة الثقة للمواطن، حتي ينتقل من العمل السياسي الفردى إلى التضامن في دعم الجهود المشتركة، من خلال عمل سياسي مؤسسي، يبني على الشراكة في إدارته، أو تطبيقات برامجه، أو الاستفادة من مشروعاته الهادفة إلى إعادة مؤسسات الدولة الليبية وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.
ومع ذلك سيستمر التحدي أمام التكتل لصياغة برامج تعبر عن تطلعات المواطن، وتزيح شبح المشهد الإنساني الحزين، وتفسح المجال أمام مبادرات يطلقها الشباب، وتنتهج رؤية وطنية تتجاوز أطرافاً تتدافع لاقتسام السلطة فى مشهد انتقالي بائس.