الرؤية حدس استشرافي يرنو إلى المستقبل، يتوسل التقصي الموضوعي للواقع، وينكر الارتهان لمقتضياته، ويسعى إلى تجاوزه. غير أن الرؤية في غياب إرادة سياسية ودعم مجتمعي تظل مجرد صورة ذهنية لغد منشود، مجرد حلم يراود مجموعة من الخبراء.

ولا يقاس إتقان صناعة الرؤى بما تسفر عنه من خطط استراتيجية، بقدر ما يقاس بوجاهة الركائز التي تنهض عليها، وبدقة وحداثة البيانات والدراسات التي استقرئ وحُلّل بموجبها أداء القطاعات المراد تطويرها، ورُصدت وفقها الاختلالات ومكامن الضعف التي تعاني منها هذه القطاعات، وقُوربت من منظورها القيم والثقافات التي تحكم الممارسات والسلوكات الغالبة في كل قطاع، وحددت تأسيسا عليها التحديات والمخاطر التي تعوق التحولات الجذرية المرجوة ومكامن القوى الممكن استثمارها والفرص الممكن اغتنامها في الاستجابة لهذه التحديات والمخاطر، وبالنجاح في عقد موازنة دقيقة بين الرغبة في تحقيق تطلعات المجتمع والثقة في قدرته على تحمل أعباء تحقيقها.

وصناعة الرؤى عملية مركبة تتسم بصبغة تراكمية بيّنة، فهي لا تعيد اختراع العجلة بل تقوم على تجارب شعوب مرت بظروف مشابهة، وهذا ما يجعل الرؤى متقاربة حد التشابه، كما لو أنها تستنسخ مبادئ وقيما وتوجهات وغايات وأهدافا متماثلة. وهكذا نجد أن أفكارا على شاكلة تقليص دور الدولة، والتنمية المستدامة، وسيادة القانون، ومكافحة الفساد، والمشاركة السياسية، وحقوق المواطنة، والإصحاح البيئي، والإصلاح السياسي، والمجتمع المعرفي، والحكم الرشيد عادة ما ترد في كل الرؤى، حيث التفاوت بينها إما راجع إلى اعتبارات شكلية، تتعلق بأسلوب الصياغة ودقتها، أو اعتبارات مضمونية، ترتبط بترتيب الأولويات، المتوقف على الطور الذي بلغه المجتمع في عملية التحديث، أو قدر الحرية المتاح، المتوقف على القيود المفروضة على صناع الرؤية.

ولهذا السبب لا تستبان جدة الرؤى في متونها، بقدر ما تستبان فيما تأسست عليه من مدخلات وأفضت إليه من مخرجات. تحديدا، لا يتضح تفرد الرؤى ومكامن اختلافها إلا في أسلوبها في رصد الواقع الذي تستجيب لاختلالاته أو تحاول تطويره، أو ترسمها لملامح الثقافة التي تشكل البيئة الحاضنة لما يسود من ميول وتوجهات وسلوكات، أو كشفها عن المفاهيم المغلوطة والشائعة في مختلف القطاعات، فمثل هذه المدخلات محتم أن تتأثر بخصوصيات اجتماعية وتاريخية واقتصادية تختلف من مجتمع الى آخر.

ولا ريب في أن هذا الاختلاف في المدخلات يحدث أثره في المخرجات، في المشاريع التنفيذية التي تحيل إليها الرؤية، وهذا ما يجعل المخرجات موضعا مناسبا آخر للتفاوت بين الرؤى.

والقيام بعملية رصد المدخلات، واقتراح ما يناسبها من مخرجات، مهمة أنجزها صناع هذه الرؤية بشكل جزئي في التقارير المرفقة، التي جاءت في شكل محاولات لتسليط الأضواء على محاور قطاعية بعينها، تأسست على أوراق أعدها مختصون ودارت حولها نقاشات مع خبراء ومهتمين. ولهذا فإنه لا يتوقع للإحساس بأهمية الرؤية، وبأصالتها وجدتها وولائها لخصوصيات مجتمعية، أن يُستشعر من الاطلاع على متن الرؤية بقدر ما يتوقع استشعاره من التقارير الملحقة بها.

غير أن هذه التقارير لا تستنفد، وليس في وسعها أن تستنفد كل المحاور، فهذه مهمة يفترض أن تقوم بها وزارة التخطيط، أو المجلس الوطني للتخطيط، أو تنجز على مستوى الوزارات النوعية أو المراكز البحثية، لأنها تتطلب بيانات ومعلومات ليست ميسرة إلا لديها، وخبراء ومختصين هي أدرى بخبراتهم وتخصصاتهم وبأمثل سبل الإفادة منهم، وما التقارير التي نلحقها بهذه الرؤية إلا محاولة لتأمين بعض الأفكار التي قد تستأنس بها هذه المؤسسات.

شعار الرؤية يوجز فكرتها: “نثق في قدرتنا على بناء دولتنا”

الثقة: فقدها من أهم نقاط الضعف التي تواجه تحقيق الرؤية، واستعادتها نقطة انطلاق التحولات الجذرية المستهدفة فيها.

القدرات: تحقيق الرؤية رهن لبناء القدرات، بما يشمله من صقل للمهارات، واستثمار أمثل للموارد.

يبقى أن نشير إلى أننا استفدنا كثيرا من جهود رؤوية سابقة، أبرزها “ليبيا 2025: رؤية استشرافية” التي أنجزها مركز البحوث والاستشارات بجامعة قاريونس في مايو 2007 بتكليف من مجلس التخطيط الوطني، وتحديثها الذي أنجزه هذا المجلس في يونيو 2013. غير أن الوقائع التي شهدتها البلاد في أربع السنوات الأخيرة أحدثت نقلات نوعية في حجم الدمار وحدة الصراع، والرؤية التي نوطئ لها تضمّن استجابات محددة لهذه النقلات. حقيقة أن معظم المساهمين لم يكونوا ضمن المشاركين في صناعة تلك الرؤية وتحديثها أثرت بدورها في بنية رؤيتنا هذه وفي نسيجها وفيما أسفرت عنه من وئائق.

الشكر موصول لكل من أسهم في هذا العمل، سواء بالمشاركة في حلقات النقاش التي تأسس عليها، أو في صياغة الرؤية، وللجامعة الليبية الدولية للعلوم الطبية التي تكفلت بتأمين مقر لعقد جلسات أعضاء الفريق وتأمين ما احتاجوا إليه من عون.

وختاما لا يسعنا سوى أن نقول إن هذا الجهد قد بذل طوعا لوجه الله والوطن، وإننا نأمل أن يجد الإرادة السياسية والدعم المجتمعي القادرين على ترجمته وتحمل كلفة ترجمته إلى واقع ملموس.