,

الهندسة العكسية لحل الأزمة الليبية (Reverse engineering)

الهندسة العكسية لحل الأزمة الليبية (Reverse engineering)

مقدمة:

رئيس الحزب المدني الديمقراطي

د. محمد سعد أمبارك رئيس الحزب المدني الديمقراطي

لعله من المنصف القول بأن المشكل السياسي الليبي الذي يبدو لنا معقداً هو حصيلة تراكم لسياسات إستمرت لعقود من الزمن، تفاقم الوضع فيها مع وجود الفراغ السياسي والتشريعي وغياب الدستور الدائم الملائم، وتمت تغذيته بثقافة الغنيمة والفساد التي تتسم بها الدولة الريعية، وتعاظمت تأثيراتها مع وجود الفوضى وتعطيل القانون، وغياب الآليات المنظمة للسلطات التشريعية والتنفيذية والفصل بينها، وساعد على تفاقم الوضع انتشار وإنفلات السلاح وتشكيل الميليشيات المسلحة، وعقدته التدخلاتالدولية السلبية منذ بداية التغيير في فبراير 2011م، حاملة معها مشاريع خارجية مزعزعة 

للإستقرار ومقوضة للسيادة الوطنية. ناهيك عن إنتهاز التنظيمات الإرهابية للوضع الأمني الهش والذي سهل تقاطرها من كل حدب وصوب، وكان لتحالفها مع قوى محلية ودولية سبباً مباشراً ساهم في سيطرتها على بعض المناطق مثل بنغازي ودرنة وسرت وصبراتة وغيرها، فكانت ضريبة التغلب عليها وإخراجها مكلفة وباهضة، وهي للأسف لازالت منتشرة في الجنوب ومتواجدة بشكل مستتر في العديد من المنشأت والمدن والمناطق، وتمثل تهديدا قادماً من أو موجهاً إلى دول الجوار، وتعرض الأمن القومي للخطر مع ما تشكله الهجرة الغير قانونية كسبب أخر في زعزعة الأمن والإستقرار الليبي والإقليمي.

تداعيات الانقلاب على المسار الديمقراطي:

بالرغم من نزاهة الانتخابات التشريعية في سنة 2014م ونجاحها في كل أنحاء الوطن، إلا أن عدم القبول بنتائجها من أطراف بعينها وتحججها بمبررات بروتوكولية أو قانونية لاقت قبولا من البعض ومنها دول أجنبية، وإستخدمت للأسف القضاء وبشكل يكتنفه الغموض بالدوافع والتفسيرات في الانقلاب على المسار الديمقراطي مما تسبب وساهم في الانقسام السياسي، كما أن هذا الإنقسام السياسي الذي تبلور في وجود حكومتين ومجلسين تشريعيين، وما تبعه بعد ذلك من أزمات أمنية ومعيشية وتكاثر للقوى الميليشياوية، ونشوب حرب فجر ليبيا التي إنتهت بسيطرة ميليشيات بعينها على مقاليد الأمور وهيمنتها على مؤسسات الدولة ومنها المصرف المركزي وأموال الشعب ومقدراته، مما ساهم في تعزيز الانقسام وتبعها حدوث إغلاق للموانيء النفطية، وإتخاذ إجراءات أحادية من كلا الطرفين أضرت بالمصلحة الوطنية وبالاقتصاد الوطني.

تداعيات التوافق السياسي في إتفاق الصخيرات:

إتفاق الصخيرات الذي لم تبذل فيه العناية الكاملة ولم يحقق النتائج المرجوة، لم يتمكن من توحيد البلاد ولا من حل الميليشيات في الترتيبات الأمنية المنصوص عليها في ملحقاته، ولم يعالج الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت، وضاعف من أعمال النهب والفساد، وساهم في إطالة عمر المؤتمر الوطني العام بشقه الذي رفض نتائج الانتخابات، وبذلك أخذ الصراع صفة التنازع بين أجسام إنتهت صلاحياتها جميعاً، وتفاقمت من خلالها الأوضاع المعيشية للمواطن، وأستخدمت فيها وسائل الضغط مثل إيقاف نظام المقاصة المصرفية مع مصارف المنطقة الشرقية، والحرب الإعلامية التي عملت على بث الفتن وتجذير الانقسام وإستمرار سيطرة الميليشيات، وتسببت في إيقاف الجهود السلمية ومؤتمر غدامس ونشوب القتال حتى وصل إلى داخل طرابلس، مما إستدعى إستقدام المرتزقة والقوى الأجنبية وأنذر بحصول حرب بالوكالة وإستدعاء لقوى إقليمية أخرى في حرب لا تبقي ولا تذر لا قدر الله.

تداعيات التوافق الدولي (مخرجات برلين):

كان للإتفاق الدولي في برلين دوراً مهما في التقليل من التدخلات الأجنبية أو بالأحرى في توحيد المجتمع الدولي، وبعث روح من التفاؤل وخلق آليات للحوار في المسارات العسكرية والسياسية والاقتصادية، حيث حقق المسار العسكري العنصر الأهم في إيقاف القتال وإتخاذ الخطوات اللازمة لحلحلة المشاكل العسكرية والأمنية، وفشل إلى الآن في إيقاف توريد السلاح وفي إبعاد المرتزقة وإجلاء القوات الأجنبية وفي توحيد المؤسسة العسكريةولعله ينجح بالمساندة الدولية المقدرة، وكان للمسار السياسي نجاح في إعتماد خارطة الطريق وإنتاج السلطة التنفيذية، وفشل في إحداث التوافق حول القاعدة الدستورية وقوانين الانتخابات. كما ساهم ضعف إدارة البعثة للحوار إلى جانب وجود وهيمنة الآجسام السياسية المتسببة في إستمرار الأزمة وفي عدم قدرتها على تجاوز العراقيل التي كانت قد تسببت فيها، كما أن المسار الاقتصادي لم يحقق المرجو منه ووقف عند خطوة توحيد سعر الصرف الذي أضعف قوة الدينار الليبي الرسمي، ولم يتم تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، ولا توحيد المصرف المركزي ولا حتى فتح المقاصة بين المصارف شرق وغرب البلاد، مما ساهم في ضعف القوة الشرائية للمواطن وزاد من أعباء المعيشة عليه.

تداعيات مشروع جنيف:

لم تحقق حكومة الوحدة الوطنية المرجو منها في توحيد مؤسسات الدولة كما ينبغي، وزادت في إجراءاتها وقراراتها من حدة المركزية، وإن لم يعتمد لها البرلمان الميزانية المقترحة، فلم تعدم الوسيلة في الأنفاق بسخاء، ولكنها لم تتمكن من معالجة مشاكل الكهرباء ولا تحسين الخدمات، وزادت حدة مشاكلها مع تفاقم أزمة كوفيد-19 والانفلات الأمني، وتضخم القطاع العام وتضاعف المصروفات الحكومية الغير مقننة والتي تنذر بتداعيات مالية واقتصادية في ضؤ إعتماد الدخل على سلعة النفط الوحيدة والغير مؤمنة، وما يصاحبها من تراكم الأزمات الإدارية والمالية وهشاشة البنية التحتية. كما تبين من كل الأطراف ومن البرلمان التردد في الالتزام بخارطة الطريق وتنفيذ الانتخابات في موعدها المقرر في ديسمبر القادم بالرغم من الضغوط المحلية والدولية وتأخر كثيراً إصدار التشريعات المنظمة للإنتخابات. 

آليات الحلول الممكنة:

لب الحديث ينصب حول آليات الحلول الممكنة وإمكانيات حدوث إختراق يضمن معالجة الأزمة السياسية الليبية بأبعادها الدولية، ويخلق المبادرات التي تعالج أسباب هذه الأزمة، ويمهد الطريق نحو إستعادة الدولة وحدوث الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني. ولن يكون من المجدي لنا الاستمرار في وضع الحلول للمظاهر الخلافية لكي نصل إلى النتيجة المرجوة ومن خلال مشاركة الأطراف المتنازعة، والتي من المؤكد أنها لاتمثل إمتداداً شعبياً حقيقياً، ولكنها تتحرك وفق مصالح خاصة بهذه الأطراف وبمن يدعمها، وتؤثر فيها مواقف مسبقة وتقييمات ليست بالضرورة صحيحة، ولذا فإننا لا نتوقع ممن كان سبباً في الازمة أن يكون جزءاً من الحل.

إن إستخدام تقنية الهندسة العكسية وبالتفكير فيما يجب أن تكون عليه الدولة وما تتطلبه حالة الاستقرار بعيدا عن المطالبات الآنية والمناكفات من إي طرف كان، وتبلور تصوراً يستجيب إلى ما يتوق إليه الليبيون والليبيات، يجب أن نستخدمها كوسيلة للوصول إلى وضع الاستقرار وتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، ولسنا مطالبين من خلالها بإختراع العجلة من جديد، فهناك العديد من التجارب الدولية التي يمكننا الاستفادة منها وبما يتوافق مع خصوصيات مجتمعنا ومتطلباته، وإذا ما توصلنا إلى معرفة شكل الدولة وعناصر الاستقرار فيها ورسمنا ملامحها، فإن آليات التنفيذ أيضا يجب أن تقلل من او تبتعد عن الاعتماد على عناصر الأزمة وأطرافها.

هذا يتطلب منا التفكير في عناصر التنفيذ الضامنة للنجاح بعيدا عن الأجسام والأطراف المتنازعة والتي تقلل من شأنها وتضعف من قدرتها على التأثير السلبي في مشروع الحل ومنها:

1.     وجود إرادة شعبية مؤيدة ومرحبة بالمشروع والداعمة إلى إنهاء كل الاجسام السياسية المساهمة في السلطة حالياً.

2.     تشجيع وتقوية التفاهمات العسكرية (لجنة 5+5 العسكرية) والبناء عليها وتحقيق وحدة المؤسسة العسكرية، وإستخدامها دون غيرها في تحقيق الأمن وإحتكار العنف.

3.     تعزيز سيادة القانون وإيقاف كل التجاوزات القانونية ومحاربة الفساد المالي والإداري.

4.     خلق فرصة لإعادة الشرعية بالانتخابات الرئاسية والتشريعية وإستغلال نجاح التحول الديمقراطي في تشكيل السلطة التنفيذية وآليات الحكم المحلي، وتكليف لجنة فنية من مختصين لوضع مقترح ملائم وجديد للدستور الدائم، وإجراء الانتخابات العامة بعد الاستفتاء على الدستور المقترح، وبالتزامن مع البدء في مشروع تحقيق المصالحة الوطنية.

5.     تفعيل القضاء وضمان استقلاليته ونزاهته وتوفير متطلباته.

6.     وجود إرادة دولية قوية داعمة للمشروع ومساندة له ومتوافقة في مجلس الأمن.

ستمثل ملامح المشروع وهندسته الرؤية الوطنية الواضحة التي تتم من خلالها إجراءات الإصلاحات الاقتصادية وهيكلة مؤسسات الدولة، وتنظيم الحكم المحلي وسيادة القانون، وترسيخ المسار الديمقراطي وتوسيع دائرة المشاركة السياسية بما فيها مشاركة الشباب والمرأة، وتضمن تحقيق الاستقرار الأمني والحفاظ على وحدة البلاد والسيادة الوطنية، وتساهم في إستقرار المنطقة، وتمهد لتحسين مستوى المعيشة وتحسين الخدمات ووضع آليات المصالحة الوطنية، ومحاربة الفساد وإيقاف النزيف والإهدار في المال العام، والبدء في مرحلة إعادة الإعمار والبناء.

خاتمة:

عندما تتكامل الصورة حول ما يجب أن تكون عليه وضعية البلد وتكون البوصلة واضحة وجلية، فإن إتجاه المسير لكل الأطراف إلى ذلك الهدف ستكون بينة ولا لبس فيها، ولن نرهق أنفسنا في إيجاد الحلول لأي طرف منها، لأنه حينها سيعرف كل طرف طريقه وما يجب عليه فعله، ويعرف كيف ينجي نفسه ومن حوله، وكيف يكون شريكا في المرحلة القادمة لا أن يكون مطالبا قانونيا محلياً ودولياً.

حفظكم الله وحفظ الله ليبيا

د. محمد سعد أمبارك

رئيس الحزب المدني الديمقراطي