انتعاش قطاع الاسكان والعقارات في ليبيا عامل داعم للحل و الاستقرار السياسي
- د.موسى عبدالله قريفة
- باحث واستشاري في سياسات الاسكان وصناعة البناء والتشييد
بادئ ذي بدء، لا جدال ابدا في اهمية المسكن والعقار كنشاط اجتماعي واقتصادي وحضاري، وحاضنة عمرانية للانسان والاسرة، ونواة لبناء وتماسك المجتمع، وترسيخ قيم الدولة. لذا يحظى المسكن بموقع متميز في الثقافة والاعراف الانسانية و الليبية، وكذلك من حيث القيمة الاقتصادية. المؤسف ان المسكن دخل في دائرة الصراع السياسي بعد احداث 2011؛ اذ اصبح وسيلة من وسائل الانتقام الاجتماعي والمعنوي والمادي، وتعرض للتدمير والحرق، وساكنه للتهجير الممنهج، كما ان نسبة معتبرة يمكن تقديرها مبدئيا ما بين 20-30% من الرصيد السكني التراكمي في ليبيا تعرض للتدمير الجزئي او الشامل نتيجة للحروب والاشتباكات العارضة التي حصلت اتناء وبعد أحداث عام 2011. وصل اداء قطاع الاسكان والمرافق والعقارات بشكل عام الى مؤشرات مُخيبة ومرعبة من حيث التراجع الحاد في معدلات الانفاق الاستثماري، ومعدلات الانتاج والنمو السنوي، وارتفاع العجز التراكمي من المساكن ليتجاوز 300 الف وحدة سكنية. يهدف هذا المقال الى لفت انتباه الساسة، و راسمي السياسات ومتخدي القرار الى اهمية قطاع الاسكان والعقارات بشكل خاص، وقطاع البناء والتشييد بشكل عام في اعادة تطبيع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية اتناء وبعد الحروب والازمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى تمر بها المجتمعات والدول.
بعد التغيير السياسي في ليبيا عام 2011، انخرط الجميع في العمل والمماحكات السياسية التي فرضتها طبيعية الاحداث الدراماتيكية، تطور لمستوى الصراع المسلح المدمر. بالتالي، توقف العمل بالمشاريع التنموية وهي في ذروة نشاطها الانشائي، و تعطلت عجلة التنمية بشكل مباغث وغير متوقع، وغادرت الشركات الاجنبية وعمالتها البلاد على عجل. تعرضت لاحقا بعض مقرات الشركات والمشاريع لاعمال تخريب، والالات والمعدات لاستخدام جائر نتيجة انهيار المنظومة الامنية، وتراجع هيبة الدولة.
للاسف، بعد سقوط النظام السياسي، اعتقد البعض خاطئا ان الرهان على التموضع السياسي أهم بكثير من الرهان على استمرار التنمية العمرانية الشاملة،، وغاب على الساسة وراسمي السياسات ان الزمن تنمية، والوقت لا ينتظر الانسان أو المجتمعات أو الدولة المأزومة، و ان اتجاه ورحلة عربة فوضى الصراع الاجتماعي والسياسي طويلة وشاقة و تسيرعكس عقارب الزمن والتنمية، وعملية تغيير وضبط اتجاهها يحتاج لعقود من التغيير الثقافي والتنمية والتنشيئة السياسية. حتما في النهاية، سيصاب الجميع بالدوران وفقدان التوازن التنموي، ويدركون حجم الخسارة التي لحقت بالجميع.
الخلاصة، الازمة والفوضى السياسية التي نعيشها مند عام 2011 وحتى اليوم عطلت التنمية الاسكانية والعقارية؛ إذ تدني معدل قيمة الانفاق االتنموى والاستثماري السنوي في قطاع العام والاهلي/الخاص، وتراجع مؤشر النمو السنوي في نشاطات قطاع الاسكان والعقارات بشكل حاد وغير مسبوق، واقتصر النشاط على بناء المساكن والعقارات العشوائية من قبل القطاع الاهلي. لا شك حالة الركود المتواصل في نشاطات قطاع البناء والتشييد بشكل عام وقطاع الاسكان والمرافق بشكل خاص سينتج عنه حزمة من المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والامنية المتراكمة في المستقبل.
على الرغم من إستمرار الصراع السياسي، وانقسام مؤسسات الدولة، فان ادارة الازمة الاسكانية والعمرانية، و رصد ابعادها الانية والمستقبلية تتطلب التخطيط والعمل المبكر، و الشروع من الان في دراسة وتحليل الاثار والتحديات والاختناقات المتوقع حصولها خلال العقود القادمة في قطاع الاسكان والعقارات، واعداد الاستراتيجات والسياسات والبرامج الطويلة والقصيرة المدى بهدف اعادة انعاش واعمار قطاع العقارات والاسكان والمرافق الان و بعد تجاوز الازمة. تجارب الدول التي مرت بحروب وازمات سياسية واجتماعية وعمرانية تبرهن على ان التعامل مع واقع ما بعد الازمة يبدأ في الحقيقة اتناء الازمة، و يتم منهجيا باعداد واعتماد استراتيجية وطنية شاملة تضم حزمة متكاملة من السياسات والبرامج والاجراءات والقوانين الاستثنائية هدفها اعادة تنظيم النشاطات الاقتصادية بشكل عام، وقطاع الاسكان والعقارات بشكل خاص، وضخ استثمارات مالية ضخمة لانعاش الاقتصاد على المستوى الوطني والاقليمي والبلدي، وتسريع نشاطات قطاع البناء والتشييد كما حصل في المانيا واليابان وانجلترا وغيرها بعد الحرب العالمية الثانية، ولبنان والبوسنة بعد الحروب الاهلية وغيرها من التجارب التي لا يتسع المجال هنا لاستعراضها، .يتطلب الامر دراستها واستخلاص الدروس، والاستفادة من الخبرة الانسانية المتراكمة في مجال اعادة تدوير عجلة مقطورة قطاع الاسكان والمرافق لدفع وتحريك قطار التنمية الشاملة، ودعم الحل السياسي واستدامته، والمساهة في اعادة بناء هياكل ومؤسسات الدولة.