هل نحتاج إلى الدعوة لدسترة التعددية الحزبية؟

د. يونس الفنوش

بقلم د. يونس فنوش

حضرت منذ بضعة أيام لقاء دعا إليه مرشح للهيئة التأسيسية للحديث إلى الناس وتقديم برنامجه الانتخابي، خرجت منه مستاء بالغ الاستياء عندما وجدت هذا المرشح الذي سوف يكون عضواً في الهيئة المخولة بوضع مشروع الدستور الدائم للبلاد، يتحدث عما سماه (التدرج نحو الديمقراطية)، ويعني به، كما شرح وأعاد الشرح، تأجيل السماح للأحزاب السياسية بالعمل حتى تنضج وتصبح قادرة على ممارسة العمل الحزبي بالطريقة الصحيحة والمثلى.

وقد سألت هذا المرشح عن رؤيته حول الموقع الذي يراه لمبدأ التعددية الحزبية في دستور البلاد الدائم، وكيف يتصور الصياغة التي سوف يتضمنها الدستور حول الحق المكفول للمواطنين في التجمع السلمي وتشكيل الأحزاب السياسية، وحول بناء النظام السياسي في البلاد على مبدأ التعددية الحزبية، بصفتها الضامنة لمبدأ آخر بالغ الأهمية وهو التداول السلمي على السلطة.

لم تعجبني مطلقاً الإجابات التي تلقيتها عن تساؤلاتي، وتكون لدي انطباع قوي بأن هذا المرشح يحاول أن يلعب على وتر بات ذا حساسية شديدة لدى المواطنين، وهو وتر الاستياء من الممارسة الحزبية، ورفض الأحزاب وإدانتها بتشويه المشهد السياسي..إلخ، فاتجه لقول هذا الكلام كي يكسب أصوات الناخبين الذين يرفضون الأحزاب ويقفون منها موقفاً سلبياً.

وقد حفزني هذا الموقف إلى التفكير في خطورة أن يوجد في الهيئة التي ستصوغ لنا الدستور الدائم للبلاد من يؤمن بمثل هذه الأفكار، وخطورة أن نجد أنفسنا أمام دستور لا يكفل للمواطنين حقهم المقدس في التجمع السلمي وتكوين الأحزاب السياسية. وكان هذا وراء تفكيري في الموضوع الذي خصصت له هذه المقالة، وهو الذهاب بفكرة تكريس الموقع الحيوي للعمل السياسي المنظم في إطار الأحزاب السياسية إلى حد الدعوة إلى ما سميته (دسترة التعددية الحزبية)، أي النص عليها نصاً صريحاً ووافياً في دستور البلاد الدائم.

ولقد عبرت في مناسبات سابقة عن إيماني بأن الحق في ممارسة العمل السياسي المنظم، في إطار الأحزاب السياسية، هو حق مقدس، لم يعد من المقبول أو الممكن أن يخلو من النص عليه أي دستور يستحق أن يسمى ديمقراطياً. وإذا كان ثمة ما يمكن وصفه بأنه (يسمو) على الدستور فهو باب الحقوق والحريات الأساسية، من جهة أن هذه الحقوق باتت حقوقاً مكتسبة ثابتة للإنسان من حيث هو إنسان، وأن أي دستور لا ينص على كفالة هذه الحقوق، وتمكين المواطن من التمتع بها،

لا يعد دستوراً ديمقراطياً، ومن ثم فهو مرفوض من حيث المبدأ.

وإني أذهب إلى أبعد من ذلك، وأرى أننا في منظور التطلع إلى بناء دولة ديمقراطية، لا قيام لها بدون تعددية حزبية، تكفل التداول السلمي على السلطة، وتضمن توازن الحكم والمعارضة، ورقابة كل طرف منهما على الطرف الآخر، فإننا سوف نكون بحاجة إلى ما أهو أبعد من مجرد النص في الدستور على حق المواطنين في العمل السياسي المنظم وفي الانتماء إلى الأحزاب السياسية، نحو النص على اعتبار الأحزاب السياسية مقوماً أساسياً من مقومات بناء الدولة الديمقراطية، ومن ثم النص على التزام الدولة بدعم الأحزاب السياسية ماديا ومعنوياً، حتى تتمكن لا من الوجود والبقاء فحسب، بل أيضاً من ممارسة أحد أدوارها المهمة المتمثل في المساهمة في تطوير الحياة السياسية في البلاد وتنميتها، من خلال مختلف برامج التواصل مع المواطنين وتوعيتهم، وتنمية روح المشاركة في مختلف جوانب الشأن العام.

وفي هذا الاتجاه سوف أدعو إلى (دسترة) التعددية الحزبية، ربما بالنص عليها كما يلي: (حق تكوين الجمعيات الأهلية التطوعية والأحزاب السياسية مكفول، وتدعم الدولة هذه الجمعيات والأحزاب، بما يمكنها من القيام بأدوارها المنشأة من أجلها في خدمة المجتمع وبناء الدولة). وأرى أننا بمثل هذا النص، لا نكفل في الدستور فقط الحق في تكوين الأحزاب السياسية، بل نتجاوز ذلك إلى كفالة دعم الدولة للأحزاب، بالطبع وفق ضوابط وشروط معينة ينص عليها قانون تنظيم عمل الأحزاب السياسية، مادياً ومعنوياً، حتى تتمكن الأحزاب الوطنية الخالصة من الحصول على الحد المعقول من الإمكانات المادية واللوجستية الذي يمكنها من الوجود، ويتيح لها فرصا ومجالات للحركة في المجتمع، تواصلاً مع المواطنين، من أجل تنفيذ برامجها في التثقيف والتوعية السياسية والاجتماعية وغيرها، ثم تنظيم حركة المواطنين وترشيدها وتنميتها خلال الممارسات الديمقراطية المختلفة، من أجل الرقي بتلك الممارسة إلى أفضل مستوياتها الممكنة.

وإني أنطلق في هذه الفكرة من واقع الممارسة المباشرة التي خضتها وخاضها معي إخواني في حزب (تجمع ليبيا الديمقراطية) وإخوان لنا في عدد كبير من الأحزاب الصغيرة، وهي الممارسة التي انتهت بنا إلى حالة العجز التام عن امتلاك مقومات الحد الأدنى من البقاء، لقلة الإمكانات المادية المتاحة، حتى انتهى عدد كبير من هذه الأحزاب إلى الاضطرار لإغلاق مقراتها ومكاتبها، بسبب العجز عن توفير تكاليف الإيجار والإدارة، والعجز عن ممارسة الحد الأدنى من النشاط الثقافي أو التوعوي..

ومن هنا فإني أرى أننا لن تكون لنا آمال في تأسيس ديمقراطية فعلية، بدون كفالة قدرة الأحزاب السياسية على البقاء والعمل والحركة، من خلال النص في الدستور على ذلك، ثم تنظيم تطبيقه من خلال قانون ينص على تقنين وتنظيم ممارسة عمل الأحزاب، ويضع لها الشروط والضوابط التي على الحزب أن يلتزم بها، حتى يحق له التمتع بالدعم المادي الذي يكفله الدستور..

وإني أدعو إلى أن تتجه دولتنا الجديدة إلى النظر إلى الأحزاب السياسية باعتبارها مقوماً أساسياً من مقومات وجود الدولة وبقائها، ومن ثم تكفل الدولة دعمها وتوفر لها فرص البقاء والصمود والحركة، لا على أنها مشاريع تخص أصحابها، ولا يهم الدولة إن هي نجحت أو تعثرت وفشلت، فتترك وشأنها، معتمدة على قدرتها الذاتية على توفير مقومات البقاء.

إن من المهم أن ننظر إلى الأحزاب على أنها مصلحة وطنية عليا، وأنها ركن من أركان الدولة الديمقراطية، لا أنها مجرد مصلحة خاصة بأصحابها، لا يهم المجتمع أو الدولة إن هي نجحت أو فشلت.. وعلينا أن ننطلق من قناعة بأن فشل الأحزاب السياسية سيكون فشلاً للدولة الديمقراطية، وفشلاً للتجربة الديمقراطية وإجهاضاً لها.

حقوق النشر للمقالات المنشورة في هذا الباب محفوظة لكاتبيها.. فلا يجوز نشرها دون إذن منهم