أصنام العقل وأزمة الفكر العربي
بقلم د.وفاء الشيخي
تمرّ أمتنا العربية والإسلامية بأزمة خانقة وحالة عجيبة من العجز وفقدان التوازن والتعثر المستمر، إزاء مواجهة الأحداث الكارثية المتلاحقة، والانحطاطات السياسية والأخلاقية والكوارث المدمرة والتحديات العظيمة، الناتجة عن تراكمت ومخلفات أفرزتها سلسلة متتابعة من الأزمات والأخطاء السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ولا أبالغ إذا قلت إن أنظمتنا الفكرية هي السبب الرئيس في هذه الأزمة، بمصادرها الضبابية المضطربة، ومناهجها المختلة، وهويتها الغائبة، الأمر الذي عجزنا معه عن إيجاد فلسفة علمية وتصوّر واضح يلائم مقتضيات الواقع، واستشراف المستقبل، ويخرجنا من دوامة الصراع المفزعة، التي شتتت قُوانا واستنزفت طاقاتُنا .
ولعل أحد أبرز التساؤلات التي تطرحها المرحلة بواقعها المرير هو: أين الخلل في نظام الفكر العربي؟
ربما نجد الإجابة فيما كتبه المفكر الإنجليزي “فرانسيس بيكون” ابن القرن السادس عشر في كتابه “الأورجانون الجديد“. والأورجانون كلمة إغريقية تعني “الآلة” أو “الأداة”، تحدث فيه عن فلسفة جديدة قائمة على العلم والعقل، وتعمل على مراجعة الإرث القديم وتنقيته من الهشاشة والركاكة والوهم والزيف.
في كتاب “الأورجانون الجديد”، افترض بيكون أصنامًا أربعة، يجب على العقل الجمعي العالمي التخلص منها. تلك الأصنام ترسّخت في العقلية الإنسانية على مر العصور، فزرعت في عقولنا مجموعة من الأوهام والخرافات والتقاليد الفاسدة، باعدت بيننا وبين جوهر العقل الصافي ومعدنه الفطري الأصيل فتعذر الوصول إلى الحقيقة.
أول تلك الأصنام، صنمٌ جمعيٌّ عام يخص الجنس البشري بكامله، وأسماه “صنم القبيلة ”Tribe Idol “، لأنه يخص “قبيلة الإنسان” بكاملها، لا القبيلة بمفهومها الدارج، ويتمثل في المعتقدات الزائفة المغروسة فينا منذ التنشئة الأولى، والأهواء الشخصية لذوينا ومربينا، فتشكّلت بها أحلام الإنسان وأمانيه وحدسه وقدراته وتفكيره، الذي غالبا ما ينزع نحو الأحكام الجاحدة والمعممة، ولا تستند في تحليل الأمور على نهج علمي منطقي، مسلّما دون وعي بمعتقدات قبيلته أو عرقه أو جماعته، ولا يقبل إلا ما يوافق نزعاته وميوله، ومرجعيته في ذلك ما كتب على جدار عقله منذ الصغر.
الصنم الثاني يخصُّ كل إنسان على حدة. وأسماه بيكون “صنم الكهف“Cave Idol“ استلهمه من قصة الكهف التي نسجها أفلاطون، حول مجموعة من البشر مقيدين بالسلاسل داخل كهف مظلم، ليس به إلا فتحة صغيرة، ظهورهم إلى هذه الفتحة، فلا يشاهدون من الحياة الخارجية إلا ظلال البشر السائرين بالخارج المنعكسة على جدار الكهف المقابل لعيونهم، ليدلل على أن الإنسان أسيرٌ في كهفه الخاص ونمطه وطبيعته الشخصية، معزول عن الرؤية الشاملة الخاضعة للمنطق والعلم، فيظل متقوقعًا في كهفه المحدود، ولا يرى من العالم ومن الحقيقة إلا ظلال أفكاره وتجاربه الشخصية الضيقة.
أما الصنم الثالث، فهو صنم السوق “Market-place Idol“، وهو الآراء والمعتقدات المغلوطة الناتجة عن تواصل البشر مع بعضهم البعض، وتناقلهم الأحاديث دون علم. وينتج عن هذا الصنم تشويه المصطلحات والتعريفات وتعميم الأمور، بسبب تداول البسطاء والعامة والدهماء لآراء علمية، دون فهم ولا دراية ولا دراسة، في المقاهي والصالونات والمحال التجارية … وغيرها. يتداول الناس في شؤون الحياة والطبيعة والسياسة بلغة مشتركة بعيدة عن
المنطق، فتفقد الألفاظُ دلالتها الحقيقية، وتستقر في الأذهان مجموعةٌ من المغالطات المشوهة.
وأخيرا “صنم المسرح “Theatre Idol“، وهو ما نرى فيه آفة عصرنا الراهن في المجتمع العربي، من تزييف للمصطلحات على يد الإعلام والنخبة والمؤسسات التعليمية والدينية، وتلك الأفكار المغلوطة التي نتداولها عن المذاهب والمدارس الفكرية التي تشكّلها القيادات والمشاهير ذوو النفوذ والتأثير المجتمعي العميق على الأفراد في كل مجتمع، والآراء التي تناقلناها عن أفواه السلف القديم دون تفكير، بحيث يصبح القديم هو دليل صحة.
وعلى الرغم من أن بيكون كان يقصد “بالسلف” أرسطو و أمثاله من فلاسفة الإغريق، إلا أن الأمر ينطبق اليوم على كل من نراهم علماء ومفكرين أجلاء في كل عصر ومكان، نحفظ أقوالهم، ونسلّم بها ونقدسها، ونعظم شخوصهم، ونتداولها ونرددها كالببغاوات، دون أن نتدبر أقوالهم ونفنّد ما بها من مغالطات علمية أو آراء قد لا تصلح لزماننا الراهن، والتسليم المطلق بصحة تلك الآراء دون ذرة شك تخالجنا في إمكانية خطئها وتأويلها أو عدم صحتها من الأساس .
ودلّل بيكون بمثال عن العالم جاليليو الذي أثبت بالتجربة العملية أنه لو ألقينا من مكان عال بحجرين، أحدهما يزن رطلا والآخر يزن عشرة أرطال، فإن كليهما سيصل إلى الأرض في نفس اللحظة، ورغم أن تلك التجربة طبقها أساتذة في الفيزياء وعلماء رياضيات وشهدوا بصحّتها، إلا أن المشاهدين أنكروا التجربة، وصدقوا أرسطو، وكذّبوا عيونهم، لأن أرسطو قد قال (قبل قرون) إن الحجر الأثقل وزنًا سوف يصل إلى الأرض أولا .
تلك المغالطات الفكرية هي التي تشكل المنظومة الفكرية والدوغمائيات التي تم تلقينها للمجتمع لتُسيّر حياتنا الراهنة، بزعم أن كل ما قاله الأقدمون خطٌّ أحمر، لا يجوز الاقتراب منه.
ويصوّر بيكون هذه المجموعة ”المسرح” بوجود أصنام على المسرح أنت ممنوع من لمسها أو نقدها، ولا يمكنك السؤال عنها، كل ما عليك تبجيلها وترديد كلمات المديح والتقديس، والانحناء كلما مررت من أمامها. وصور البشر بمجموعة من المتفرجين في عرض مسرحي يمثّله الأقدمون على خشبة المسرح، في عرض هزلي زائف، تم حبكه من منظومة من الأحكام المسبقة غير العلمية غير الدقيقة، نصفق له بانقيادية، تقف حجر عثرة في وجه الحقيقة، فتمنعنا من تجلي مشارفها.
ما أكثر ما تنطبق أفكار فرنسيس بيكون بقوة على لحظتنا الراهنة، بكل ما تحمل من فوضى وعبثية وافتقار للعلم والمعرفة في مجتمعاتنا، وكأنما بيكون كان يفكر في أزمة الإنسان العربي، و في أزمة اللحظة الراهنة، وليس لحظة التعافي الأوروبي من سطوة الهيمنة الدينية مع مشارف عصر النهضة الأوروبي .
فما نشاهده من أحداث ساخنة على السطح، تحتها قرارات اتخذها أشخاص أو مجموعات تحوي عقولهم تلك الأصنام الأربعة ..
يقول بيكون في نهاية كتابه: “لا تقرأ لتعارض وتُفنّد، ولا لتؤمن وتُسلّم، ولا لتجد ما تتحدث عنه، بل اقرأ لتزن وتفكر..
فمتى نعيد تفكيك إطارنا الفكري، ونهدم أصنام عقولنا، لنخرج من كهوفنا وأزماتنا؟