استراتيجيات وسياسات وبرامج الاسكان في ليبيا ( 2017-2001) (التقييم، تصويب الانحرافات، والتقويم) جزء الثاني

د. يونس الفنوش

د. موسى قريفة

بقلم د.موسى قريفة

هذا المقال يعتبر استكمالا، وجزء من مقالي “استراتيجيات وسياسات وبرامج الاسكان في ليبيا (1952-2000)” . المقالان يستعرضان بالدرسة والتحليل استراتيجيات وسياسات الاسكان في ليبيا مند الاستقلال وحتى اليوم، ويهدفان الى تقييم السياسات السابقة، وتصويب الانحرافات، توطئة لبلورة أستراتيجية وطنية لقطاع الاسكان  والمرافق، واعادة الاعمار بعد انفراج الازمة  في ليبيا ان شاء الله.

مع بداية العقد الاول من القرن الواحد والعشرين، وبعد تسوية مشكلة لوكوربي (1999-2003)، ورفع الحصارالاقتصادي ظهر توجه  سياسي وضع التنمية العمرانية بشكل عام، و قطاع الاسكان والمرافق بشكل خاص من الاولويات في استراتيجيات وسياسات الدولة. في العام 2004، تم إنشاء الهيئة العامة للبنية التحتية، وجهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق  في العام 2006، والمؤسسة العامة للاسكان  وامانة (وزارة) اللجنة الشعبية العامة للمرافق عام 2008، إضافة الى دعم أجهزة ذات عللاقة بالتنمية العمرانية والاسكانية أهمها جهاز تطوير المراكز الادارية، ومصرف الادخار والاستثمار العقاري، وشركات التهيئة العمرانية. أُعدت حزمة من الاستراتيجيات والسياسيات والبرامج من قبل الهيئة العامة للبنية التحتية، وجهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق، وُشروع في تنفيذها. أهم الاهداف كانت تطوير البنية التحتية، ومواجهة مشكلة الاسكان والمرافق العامة. تميزت استراتيجية وسياسيات وبرامج الاسكان في القرن الواحد والعشرين التي طرحها وشرع في تنفيذها جهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق برؤية تصميمية وتخطيطة ذات ابعاد اجتماعية وثقافية وحضرية، حاولت التعامل مع الاسكان كمنتج ثقافي، ومنظومة عمرانية اجتماعية ثقافية متكاملة ومستدامة، مع الربط ما بين الاسكان كحاجة انسانية والعمل كنشاط اقتصادي، بالتالي، اعتمدت بناء مدن وقرى ومجاورات حضرية جديدة ترسخ الاندماج الاجتماعي، وتعكس الهوية البيئية والثقافية والمعمارية الليبية في مشهد عمراني معاصر. كما شملت برامج تطوير البنية التحتية، والارتقاء بالمناطق المتدهورة عمرانيا داخل المدن.

استراتيجيات  وسياسات وبرامج الاسكان مع بداية هذا القرن كانت محصلة لعملية تقاطع  بين استراتيجية التدخل المباشر للدولة في قطاع الاسكان والتنمية العمرانية(Direct state-Intervention) ، وإستراتيجية التمكين (Enabling Housing Strategy). الاولى تم  تطبيقها خلال الفترة (1960-1985) من القرن الماضي؛ وخلالها كانت الدولة ضامن للسكن، أما الثانية فقد تم التوجه لتطبيقها مند النصف الثاني من عقد الثمانينات من القرن الماضي ولعبت فيها الدولة دور  المساعد، والضامن للبيئة والسوق بدعم القوانين والتشريعات المشجعة للاستثمار في قطاع الاسكان والمرافق والتنمية العمرانية.

أسباب عديدة اقنعت راسمي السياسات الاسكانية على التوجه للدمج بين الاستراتيجيات والسياسات الاسكانية المختلفة؛ أهمها؛ الضغط الاجتماعي الكبير الناتج عن العجز السكني المتراكم في عدد الوحدات السكنية نتيجة عدم القدرة على تنفيذ المستهدفات الاسكانية خلال العقدين الاخيرين من القرن الماضي، وانتشار ظاهرة احياء الاسكان العشوائي. تشكلت رؤية سياسية داعمة للتدخل المباشر في قطاع الاسكان والمرافق من جديد بهدف امتصاص الضغط الاجتماعي ، والعجز السكني المتراكم، وتحديث وتطوير البيئة العمرانية، ومعالجة الاحتقان الشعبي، والظواهر الاجتماعية السلبية ذات العلاقة بازمة قطاع الاسكان.

من المحاولات الجريئة لمواجهة مشكلة الاسكان والبنية التحتية، خطة جهاز تنفيذ مشروعات الاسكان والمرافق الاسكانية التي عرضها الجهاز في عام 2006، وتم اعتمادها. استهدفت الخطة تنفيذ  200000 وحدة سكنية على شكل أحياء سكنية ، وقرى ومدن ومجاورات سكنية جديدة مع المرافق المتكاملة. باشر الجهاز في التعاقد على تنفيذ مشاريعها مع مئات الشركات الليبية والاجنبية. حددت الخطة اطارا نظريا ومشهدا عمرانيا ومعماريا للمسكن والحي والمدينة والقرية الليبية في القرن الواحد والعشرن؛ بيئة عمرانية معاصرة، منتميىة للمكان ومرتبطة بالتاريخ والتراث العمراني. كما اهتمت بالعوامل التي تساعد على تحقيق التنمية المتوازنة المستدامة، والربط بين العمل والسكن، والثحديث والتطوير العمراني، كانت غايتها انتاج بيئة سكنية وعمرانية مستدامة بيئيا وإجتماعيا وأقتصاديا.  وأوصت الخطة بتبني حزمة من الاساليب لتحقيقق الغايات والاهداف أهمها التركيز على برامج التهيئة العمرانية، وابتكار حلول وانماط تخطيطية وتصميمية تتناسب والمكان وتاريخة، وتطوير مواد وأنظمة بناء معاصرة وإقتصادية، وتحديث وتطوير المدن والمناطق المتدهورة عمرنيا. كذلك، في العام 2009، عرضت امانة اللجنة الشعبية العامة للمرافق سابقا (وزارة الاسكان) رؤية وخطة لتحديث وتطوير البنية التحتية، والمرافق العامة، والارتقاء بالبيئة العمرانية، والتخلص من القمامة والمخلفات، والبيئة والمياه، وتزويد المناطق الحضرية بالطاقة. للاسف، واجهت الخطة الاسكانية لجهاز تنفيذ مشروعات الاسكان، وكذلك خطة امانة (وزارة) المرافق عديد المعوقات التي حالت دون بلوغ الاهداف المخططة، كما توقف تنفيذ الخطط والمشاريع المتعاقد عليها نتيجة للاحداث المصاحبة للتغيير السياسي في 17 فبراير، وما بعدها من أزمات وتداعيات تتعلق بالازمة السياسية، والانفلات الامني، وضعف وانقسام مؤسسات الدولة.

 

بعد التغيير السياسي في عام 2011، أستمر الاهتمام بقطاع الاسكان والمرافق، والحرص على متابعة إستكمال الخطط السابقة، والمشاريع الاسكانية المتوقفة برغم الظروف الامنية الصعبة. هيكل الحكومات الانتقالية الاولى (2012)، والثانية (2012-2014)، وما بعدها من حكومات منقسمة (2014-حتى تاريخه)، كانت وزارة الاسكان والمرافق أو الهيئة العامة للاسكان من ضمن الوزارات او المؤسسات المكونة لهيكل الحكومة. برغم كل ما تم من محاولات متواضعة لادارة عجلة المشاريغ المتوقعة، مازالت مشاريع الاسكان والمرافق والبنية التحية متوقفة. لاشك استمرار توقفها سيؤدي الى ظهور عيوب انشائية في الاجزاء المنفذة منها، ويزيد من صعوبة عودة الشركات المتعاقدة على تنفيذها والقبول باستكمالها بنفس الشروط التعاقدية، اضافة الى قيام بعضها برفع قضايا أوالمطالبة بتعويضات مقابل حالة الظروف القاهرة وما ترتب عليها من تداعيات، و التي أرغمتها على ايقاف العمل بالمشاريع المتعاقدة على  تنفيذها. يجب الاشارة الى انه وبرغم الظروف الاقتصادية والامنية  السائدة في البلاد مند عام 2011 فان نشاطات قطاع الاسكان الشعبي/الاهلي (Informal Housing Sector) قد ازدهرت بشكل ملفت جدا، وشيدت عشرات الالاف من الوحدات السكنية الخاصة بشكل عشوائي، الا ان ارتفاع اسعار مواد البناء والعمالة نتيجة لتراجع قيمة الدينار الليبي، وانعدام السيولة النقدية قد أثرت على نشاطات بناء المساكن الخاصة بشكل واضح مند حرب فجر ليبيا وتداعياتها الامنية والسياسية والاقتصادية والعمرانية. في المقابل، تعرضت نسبة معتبرة من الرصيد السكني والعقاري على المستوى الوطني للتخريب أو التدمير الجزئي او الشامل نتيجة للحروب السياسية (فجر ليبيا) او تلك الى مازلت مشتعلة لليوم لمواجهة الجماعات المتطرفة.

خلاصة استعراض  استرتيجيات الاسكان والمرافق، والبنية االتحتية في ليبيا مند الاسنقلال (1952) وحتى اليوم تبرهن ان الدولة الليبية أهتمت مبكرا بقطاع الاسكان والمرافق؛ ولم تكن ليبيا استثناء بين دول العالم النامي، فقد طُبقت اغلب استراتيحيات وسياسات وبرامج الاسكان التي اعتمدتها عديد الدول في العالم، الا ان ما ميز التجربة الليبية النظرة الفكرية والايدولوجية للمسكن، ونشاط المقاولات وما رفقهما من تطبيق لاجراءات تشاركية أترث تأثيرا سلبيا على هيكلية قطاع الاسكان وتشاط قطاع المقاولات الليبي، وسوق الاسكان والعقارات (1981-2000). كما لم تتمكن الدولة الليبية خلال تاريخها الاسكاني من تحقيق الاهداف والغايات الاسكانية المخططة لعدة أسباب، أهمها، ضعف الادارة  وتفكيكها تحت فلسفة الجمهرة، والزحف الشعبي وتغيير القوانين، وعدم إستقرارها، هيمنة الشركات الاجنبية، والقطاع العام على نشاطات البناء والتشييد، غياب وضعف قطاع المقاولات الوطني، الاوضاع السياسية والاقتصادية وما صاحبها من حصار سياسي وإقتصادي، وانخفاض اسعار النفط وتراجع ايراداته ، إرتفاع معدلات التضخم،،و تطبيق الاجراءات الاشتراكية فيما يخص المسكن من حيث الملكية والايجار. اضافة لحل قطاع المقاولات الوطني واعادة تنظيمه على أساس تشاركي، وضعف برامج توفير الاراضي الحضرية، والمخططات الصالحة للبناء، غياب سياسات التهيئة العمرانية (Site and Service) S&S، وعدم تحديث وتطوير العقود، وادخل انظمة تعاقدية جديدة مثل D&B (Design and Build) و D.B.O (Design, Build and Operation) والشراكة بين القطاع العام والخاص P&P (Public and Privateعند التعاقد على تنفيذ المشاريع الاسكانية والبنية التحتية. كل العوامل السابقة عملت مجتمعة او منفردة على عدم قدرة  الدولة والمجتمع على  السيطرة على مشكلة الاسكان والمرافق، وبالتالي ظهورها كمشكلة قابلة للتفاقم والخروج على السيطرة في حال عدم منحها الاهتمام والاولوية في استراتيجيات وخطط التنمية.

 

لذا فان الاستراتيجيات والسياسات والبرامج الاسكانية حلال النصف الاول من القرن الواحد والعشرين سوف تعتمد على الاستثمار المباشر للدولة، والشراكة بين القطاع العام والخاص ، وتبني استراتيجية التمكين والمساعدة غير المباشرة للدولة Enabling Housing Strategy.  في نشاطات قطاع الاسكان والبنية التحتية وبرامج التطوير العمراني والارتقاء بالبيئة العمرانية.  اذا ما تحسنت الظروف الامنية، واستعادت الدولة هيبتها يتوقع ان يجذب سوق الاسكان والعقارات رأس المال الوطني والاجنبي للاستثمار في مشاريع الاسكان والبنية التحتية والعقارات.

معالجة مشاكل مشاريع الاسكان والمرافق والبنية التحتية المتوقفة ستكون من أكبر التحديات التي ستواجه الدولة الليبية ما بعد الازمة الحالية.كما ان مشاريع اعادة الاعمار للمدن والاحياء المتضررة سيكون من الملفات الساخنة والهامة خلال العقد القادم؛ ويتطلب ذلك الاستعانة ببيوت خبرة إستشارية متخصصة، والاستفادة من تجارب دول مرت بازمات وظروف مماثلة، وجهدا وطنيا استثنائيا، وسنوات من العمل المخطط والمتواصل.  الخلاصة، مشكلة الاسكان والمرافق والارتقاء بالبيئة الحضرية، واعادة الاعمار وفق المعايير المعاصرة، والهوية الثقافية والحضارية للمجتمع الليبي، والبيئية والمناخية للمكان ستكون من التحديات الكبرى التي ستواجه الدولة الليبية خلال العقود القادمة. في المقابل ستكون عامل من عوامل استقرار البلاد وازدهارها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وترسيخ ثقافة مؤسسات الدولة، وقيم العدالة الاجتماعية، واعادة بناء وتطوير المقاولات الليبية، وصناعة البناء والتشييد اذا ما أُحسن التخطيط و التوظيف الايحابي لنشاطات قطاع الاسكان والمرافق والعقارات. الكلمة الاخيرة في هذا المقال، إعادة تقييم الاستراتيجيات والسياسيات والخطط والبرامج الاسكانية السابقة، ووضع إستراتيجية إسكانية جديدة وفق المتغيرات والمعطيات السياسية الجديدة أصبح ليس سؤالا بل ضرورة و أولوية من أولويات عمل مؤسسات الدولة الليبية حال اعادة توحيدها وحضورها وهيبتها.

حقوق النشر للمقالات المنشورة في هذا الباب محفوظة لكاتبيها.. فلا يجوز نشرها دون إذن منهم