هل أصبح الانتماء إلى حزب؛ سُبّة؟

د. يونس الفنوش

بقلم د. يونس فنوش

[مقالة نشرت في صحيفة الأحوال، الأربعاء 30/04/2014]
بات يلاحظ بكثرة في الآونة الأخيرة حرص بعض المحسوبين نشطين سياسيين، وخاصة ممن رشحوا أنفسهم أو ينوون ترشيح أنفسهم للحصول على ثقة الناس في انتخابات ما، على تأكيد أنهم (مستقلون)، بمعنى أن أحدهم لا ينتمي إلى حزب سياسي. ويكاد بعضهم يقسم بأغلظ الأيمان على ذلك، لكي يزيل أي شبهة في الأمر.

وقد كانت هذه الملاحظة تستفزني وتثير لدي تساؤلا ملحاً: هل أصبح الانتماء إلى حزب سبة يجدر بالمرء أن يتبرأ منها، أو تهمة يحرص كل الحرص على نفيها عن نفسه؟ وقد وجدت أن هذه الفكرة تؤشر إلى حدوث انتكاسة فعلية خطرة في توجهنا الذي حرصنا في بداية الثورة على تأكيده نحو بناء الدولة الديمقراطية، فالسعي للتنصل من الانتماء إلى الأحزاب يدل دلالة واضحة على أننا قد فقدنا ذلك الإيمان بالديمقراطية، التي كنا نحسب أن من تحصيل الحاصل القول بأنها لا قيام لها بدون (التعددية الحزبية). وقد ذهبنا في مرحلة ما إلى الدعوة لأن نرفع شعارات مضادة لشعارات القذافي التي رسخ من خلالها هذه الفكرة ذاتها، وهي اعتبار (الحزبية) إجهاض للديمقراطية، وأن من يتحزب قد (خان)، برفع شعار يقول (الحزبية ليست خيانة، بل هي الحل) أو (لا ديمقراطية بدون تعددية حزبية).. وقلنا إن من أهم وأصعب المعارك التي علينا أن نخوضها، ونحن نشق هذه الطريق الصعبة الشائكة نحو بناء الدولة الديمقراطية، هي معركة محو آثار ثقافة القذافي المضادة للعمل السياسي المنظم، وإحلال ثقافة الديمقراطية من خلال الانتماء إلى الأحزاب السياسية محلها.

من الحق أن مسيرتنا نحو هذه الغاية قد واجهتها عراقيل وعقبات كثيرة، تمثلت في أن تجربتنا في العمل السياسي المنظم كانت تجربة غضة وناشئة، لا تستند إلى رصيد كاف من الخبرة والتمرس بالعمل السياسي، وأن الممارسة الفعلية لبعض الأحزاب التي خاضت تجربة الانتخابات، وفازت بمقاعد في المؤتمر الوطني العام لم ترق إلى المستوى المناسب من الممارسة السياسية الناضجة المسؤولة، ومن ثم فقد ارتكبت العديد من الأخطاء، ودخلت في الكثير من المشاحنات والصراعات، أدت إلى عرقلة مسيرة بناء الدولة، وعطلت بشكل مؤسف عمل المؤتمر، الذي أخذ المواطنون يشاهدون ويتابعون، بمرارة وأسف وخيبة أمل، كيف أنه يضيع الوقت في المهاترات والمشاحنات والمساومات، ما انعكس سلباً على أدائه، وبالضرورة انعكس سلباً على مسيرة الدولة.

وقد أدى ما ذكرناه أنفاً إلى حدوث ردة فعل عنيفة وقوية لدى المواطنين ضد فكرة العمل الحزبي، وباتوا يعبرون بقوة عن هذه القناعة التي أخذت تتولد وتترسخ في نفوسهم بأن الجريرة هي كلها جريرة الأحزاب، التي قدمت أنموذجاً رديئاً ومنفراً للعمل الحزبي، ما انتهى بهم إلى ما يشبه اعتبار الانتماء إلى حزب سياسي سبة أو عيباً أو خطيئة يجدر بالمواطن الصالح أن يتبرأ ويتنصل منها.

وإني لأجد في بلوغ هذه القناعة السلبية تجاه العمل السياسي المنظم، أي العمل الحزبي، انتكاسة خطرة، علينا أن نتبين أبعادها وتأثيراتها على مسيرة العمل السياسي في ليبيا، وآمالنا في وضع أسس لدولة ديمقراطية، تقوم على ترسيخ مبادئ احترام تباين الآراء، وتقنين وتنظيم عملية الاختلاف في الرأي، كي تتعايش كل الآراء، مهما اختلفت، بطريقة سلمية حضارية، وتلجأ عند الحاجة إلى حسم القرار أو الخلاف إلى تغليب ما تتفق عليه أغلبية الشعب، في ظل احترام المخالفين في الرأي وكفالة حقهم في امتلاك رأيهم والمناداة به وحشد التأييد له.

وما لم نصل إلى تلك الحالة من الوعي بأهمية العمل السياسي المنظم في بناء الدولة الديمقراطية، ومن ثم تحقيق أهم هدف من أهداف ثورة فبراير، حتى يعود الانتماء إلى (حزب سياسي)، مفخرة يتنافس المواطنون على الفوز بها، فإننا سنظل بعيدين بعداً شديداً عن تحقيق أهدافنا في بناء الدولة الديمقراطية..

وإني أتطلع إلى أن نعود إلى فهم كلمة (مرشح مستقل) بما تعنيه في حقيقة الأمر، أي مرشح لا رأي له ولا فكر ولا انتماء… ومن ثم تصبح كلمة (مستقل) في ذاتها سبة وعيباً يجدر بالمواطن أن يحرص على التنصل والخجل منه..
وسوف يقاس مدى تقدمنا في هذا الاتجاه ببلوغنا الحالة التي يشعر فيها من ينتمي إلى حزب سياسي بالفخر والاعتزاز، بأن له رأياً وموقفاً وكلمة في الشأن العام لبلاده، يحرص على أن يقولها بنفسه، ولا يتركها كي يقولها الآخرون.

حقوق النشر للمقالات المنشورة في هذا الباب محفوظة لكاتبيها.. فلا يجوز نشرها دون إذن منهم