الفوضى الخلاقة وتداعيات المرحلة
بقلم د.وفاء الشيخي
يمثل مصطلح الفوضى الخلاقة أحد أهم المفاتيح التي أنتجها العقل الاستراتيجي الأمريكي في التعامل مع القضايا الدولية، حيث تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قبل النخب الأكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الفوضى في حقيقتها لا يمكن أن تكون خلاقة، إلا أنهم ابتدعوا هذا المصطلح لأغراض مضللة، لا يخفى على الكثيرين خبث المقصد من وراءه .
وقد شهدت السياسة الأمريكية تغيراً ملحوظاً بعد انتهاء الحرب الباردة، نتيجة الظروف الدولية والوضع العالمي، فكانت فرصة لها لتنفرد بمقومات القوة والهيمنة العالمية، الأمر الذي جعلها تعتمد سياسة ما يسمى ”الفوضى الخلاقة”، خصوصا مع دول الشرق الأوسط والمنطقة العربية، فلا تذكر الفوضى الخلاقة إلا ذكر معها الشرق الأوسط أو المنطقة العربية. وتهدف هذه الفوضى إلى تحقيق استراتيجية معينة، ومنهج لإدارة المصالح الأمريكية والغربية في المناطق التي تتركز فيها تلك المصالح. هذه الفوضى تكون خلاقة بالنسبة لمصالح أمريكا والغرب، ولكنها غير خلاقة، بل مدمرة بالنسبة للأوطان والشعوب، فهي تعتمد على خلق فوضى مستمرة، بأحداث متتابعة وسيناريوهات متقنة، بقصد الوصول إلى موقف أو واقع سياسي ترنو إليه .
والفوضى الخلاقة، في مفهومها، هي أقرب إلى “الإدارة بالأزمات”، وهو مصطلح متعارف عليه في المجال الاستراتيجي، مع اختلاف الآليات والوسائل .
والإدارة بالأزمات هي علم وفن صناعة الأزمة وافتعالها وإدارتها بنجاح، لغرض تحقيق مصالح محددة. ويترتب على هذا النوع من الأزمات تفكيك لمنظومة بعينها أو استهدافها، والوصول إلى مكوناتها الأساسية، وإحداث انهيار كلى لنظامها، وإعادة تشكيلها بطريقة تخدم تلك المصالح.
وقد ظهر مصطلح الفوضى الخلاقة أول مرة حين تحدثت عنه رئيسة وزراء بريطانيا السابقة “مارغريت تاتشر”، عندما وصفت به الحرب العراقية الإيرانية، واحتمالية امتداداتها الإقليمية لدول أخرى، وكانت ترى من وجهة نظرها أنها حالة من حالات الفوضى، التي يمكن أن تؤدي إلى استقرار الإقليم فيما بعد. أما “كوندليزا رايس” فإن الفوضى الخلاقة بالنسبة لها هي التخلي عن مفاهيم الأمن والاستقرار في المنطقة، ولو أدى ذلك إلى إسقاط العديد من الأنظمة الحليفة والموالية للولايات المتحدة، تحت مسمى الإصلاح والديمقراطية، لإنتاج بيئة وفضاءات أفضل “من وجهة نظرها “، كما حدث في الثورات العربية .
فعلى سبيل المثال اعتمدت الولايات المتحدة ما تسميه الفوضى الخلاقة في العراق، ونشرت فوضى عارمة، وخلخلة للبنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعملت على تفكيكها، وتدمير منظومة الأخلاق والفكر وتحطيم القيم، عبر وسائل فكرية وإعلامية وعسكرية واقتصادية ، إلى جانب الضغوط الدبلوماسية. لهذا تعتقد أمريكا أن إعادة تطبيق الفوضى الخلاقة، على مستوى الشرق الأوسط، بعد نجاج تجربتها في العراق، وتحقيق النتائج المتوقعة منها، ستكون الخارطة التي ترسم معالم منهجية تطبيق سياسة الفوضى الخلاقة على النطاق العالمي والتحكم به، وتأثيرها على التوازن الإستراتيجي والإقليمي، من خلال تفكيك وإعادة تركيب كل المواقع والجغرافيات التي ترى الإدارة الأمريكية أنها تشكل مصادر تهديد لأمنها ومصالحها، متخذة من فزاعة مكافحة الإرهاب التي تروج لها باستمرار إحدى أهم الوسائل لذلك .كما ترى أن التحكم بالفوضى “التدميرية” يجب أن يكون تدريجياً، مع المحافظة على الخصائص الديناميكية للأنظمة المجتمعية، دون القضاء عليها أو تغييرها جذرياً، من أجل الإبقاء على ثغرات لإعادة تفعيل التحكم فيها، إذا فشلت مرحلة من مراحل عملية التطبيق .
ولا يخفى على الكثيرين كيف ساهمت الولايات المتحدة والإدارة الأمريكية بشكل رئيس ومباشر فيما تشهده منطقة الشرق الأوسط من حالات التخبط وانعدام الاستقرار و الحراك غير المنضبط، التي أثرت بشكل كبير على طبيعة تكويناته وتوازناته الإستراتيجية والإقليمية، وانهيار أبرز أنظمته السياسية، ولا تزال الولايات المتحدة تسعى لخلق شرق أوسط جديد، في عملية مخاض عسر، أطلقت عليها مسمى “إعادة هندسة الشرق الأوسط وفق الرؤية الأمريكية”، حسب معلومات مسربة من موقع ويكليكس. كما إنها تسعى بكل قوتها لنشر هذه الفوضى من خلال وسيلة أخرى، هي استغلال حدة الانقسامات المذهبية وتصارع الأحزاب الإسلامية على الحكم والسلطة، وظهور ما يسمى” الإسلام السياسي”، معتمدة في ذلك على صعوبة، وربما استحالة، توافقهم أو احتواء بعضهم بعضاً، من “وجهة نظرها”، معتبرة هذا الأمر أحد أهم الأدوات التي تعتمد عليها في توظيفها لتطبيق سياسة الفوضى الخلاقة، فالنزاع على السلطة بين هذه الأحزاب يدخل المنطقة في دوامات صراع سياسي وغير سياسي، ويبث حالة من عدم الاستقرار والتطاحن والتحارب والتقاتل، ينعكس على الأداء الاستراتيجي والتوازن الاقليمي للدول، ما يسهل تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الإدارة الأمريكية هي التي دعمت هذه الأنظمة الإسلامية في بعض الدول العربية، وعملت على إنجاحها، وأوصلتها إلى سدة الحكم، ومن ثم قامت بإفشالها، لتساعد في انقسام الشعوب بين مؤيد ومعارض للحكم الإسلامي، وتزداد وتيرة الصراع والفوضى بينها، وتنتقل الأزمة من أزمة نظام حكم إلى أزمة اجتماعية دينية، يصعب السيطرة عليها وضبطها، وتتحول بالتالي إلى أزمة دولة مهددة في مؤسساتها وأركانها!؟؟
إذا كان الجواب بنعم، فهذا يعني أن جوهر فكرة الفوضى الخلاقة في تعاملها مع المنطقة ستكون قائمة على تفعيل تناقضات تهدد المنطقة وتماسكها واستقرارها، ساعية لخلق وتغذية صراع إسلامي إسلامي، لكي تفكك الإسلام من جهة، وتفكك المنطقة من جهة ثانية، وتحقق سيطرتها وهيمنتها إقليميا من جهة أخرى .