من تركة حكم الاستبداد: رهاب الحزبية

د. يونس الفنوش

بقلم د. يونس فنوش

يعرّف مرض الرًّهاب أو الفوبيا Phobia في علم النفس بأنه “مرض نفسي يعني الخوف الشديد والمتواصل من مواقف أو نشاطات أو أجسام معينة أو أشخاص”. ومعروف أن الشخص الذي يعاني من هذا المرض، تصيبه حالة من القلق والرعب عندما يجد نفسه في مواجهة ذلك الموقف أو النشاط، على نحو لاشعوري لاإرادي.
وإني أريد أن أزعم أن تجربتنا المريرة مع حكم الاستبداد والتسلط والقمع، خلال أكثر من أربعة عقود، وخاصة فيما يتعلق بالعمل السياسي عامة، والعمل المنظم في شكل تنظيمات وأحزاب سياسية على وجه الخصوص، قد أصابتنا، أو بتعبير أكثر دقة، أصابت نسبة كبيرة منا بما يمكن أن نسميه “رهاب الحزبية”، أي ذلك الرعب الشديد الذي يصيب كثيرين منا عندما يسمعون مفردات الحزب والحزبية، ويزداد حدة إذا ما ووجه أحدنا بدعوة صريحة ومباشرة للانضمام إلى تنظيم أو حزب سياسي.
لقد لمسنا ذلك بكل وضوح منذ مرحلة مبكرة من عهد هذه الثورة المباركة التي أزاحت عنا ستر الخوف، وفتحت أمامنا آفاقاً مشرعة للشروع في تعلم أبجديات التداول في الشأن العام عامة، والشأن السياسي على نحو خاص، وذلك أننا رأينا كيف كان المواطنون يتفاعلون مع أي ذكر لمفردات (الحزب) و(الحزبية)، وكانت تظهر عليهم أعراض الخوف التي تنشأ عن “الرُّهاب”، فيرفضون هاتين الكلمتين، ويشرعون، على نحو غير إرادي، في ترديد ما ترسب في نفوسهم من انطباعات وأفكار عن مساوئ الحزبية، كما حرص نظام الاستبداد على ترديدها وترسيخها، من قبيل أن الحزبية “خيانة” أو أنها “إجهاض للديمقراطية”، والأخطر من ذلك ما يقفز إلى وعيهم من ذكريات وصور مريرة، ارتبطت مباشرة بهذه التهمة “الحزبية”، ونعني ذكريات الإرهاب وممارسات القمع التي مورست بكل بشاعة وقسوة ضد المتهمين بعدم الولاء للرأي الأوحد الذي كان يراد له أن يهيمن ويسيطر وحده، فكان يُزَجّ بكل من يتهم بهذه التهمة، وكل من يتهم بالانتماء إلى مجموعة أو حزب معارض، في السجون، حيث يتعرض لشتى أشكال التعذيب، وكثيرون قضوا نحبهم في السجون أو على أعواد المشانق في الساحات العامة وداخل الحرم الجامعي.
فماذا عسانا أن نفعل لعلاج أنفسنا من هذا المرض: رهاب الحزبية؟
في تقديري أننا بحاجة فعلاً إلى أخذ مشورة مختصين في علم النفس والتحليل النفسي، كي يرشدونا إلى الوسائل التي يمكن أن تساعدنا في هذا الخصوص، من واقع تجاربهم المباشرة في علاج الأفراد المصابين بهذا المرض، وربما يسهمون معنا في إيجاد الوسائل القابلة للتطبيق على الجماهير العريضة من الناس، من خلال افتراض أن هذه الجماهير تمثل جسماً يخضع للقوانين الطبيعية والنفسية التي يخضع لها الفرد الواحد.
وأحسب أننا يمكن أن نستفيد من الوسائل ذاتها التي اتبعها القذافي في زرع ذلك الرهاب في نفوسنا، عبر إخضاعنا طوال الوقت لضغط مقولاته الشهيرة ضد الحزبية، من خلال وسائل الإعلام ومناهج التعليم في المؤسسات التعليمية، وممارسات “غسيل الدماغ” التي كانت تطبق على الصغار والفتيان في معسكرات التربية العقائدية، فنضع الخطط المناسبة التي تهدف إلى ترسيخ قناعات مختلفة في عقول الناس عامة، مفادها أن امتلاك الفرد/المواطن لرأي مختلف عن آراء الآخرين، ولو كان هؤلاء هم الحكام في قمة هرم السلطة، هو أمر طبيعي، وحق مقدس من حقوقه كإنسان وكمواطن، وأن توجه المواطن للاجتماع بالمواطنين الذين يتفقون معه على الرأي نفسه، والعمل معهم بطريقة منظمة سلمية، للدعوة لذلك الرأي، وهو ما تعنيه بكل بساطة كلمة “التحزب” و”الحزبية”، هو أيضاً أمر طبيعي، وحق من حقوقه كمواطن، وهو بمعنى من المعاني مزية، وليس عيباً، فهو دليل على رقي وعي المواطن بمضمون حقوقه وحرياته المقدسة، وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والعمل السياسي السلمي المنظم.

حقوق النشر للمقالات المنشورة في هذا الباب محفوظة لكاتبيها.. فلا يجوز نشرها دون إذن منهم