استراتيجيات وسياسات وبرامج الإسكان في ليبيا (1952-2000) (التقييم والتقويم وتصويب الانحرافات)
بقلم د. موسى قريفة
يستعرض هذا المقال إستراتيجيات وسياسات وبرامج الإسكان في ليبيا (1952-2000) “القرن العشرين”. سنتناول في مقال آخر إستراتيجيات وسياسات وبرامج الإسكان في ليبيا خلال الفترة (2000-2017)بالدراسة والتحليل والتقييم، وتحديد الانحرافات عن الاهداف المخططة. هذا المقال من أهم اهدافه لفت الانتباه الى أهمية اعداد دراسة تحليلية تقيمية وتقويمية شاملة لقطاعي الإسكان والمرافق والعقارات قبل وضع رؤية واستراتيجية مستقبلية عامة لقطاعات الإسكان والمرافق، والعقارات، والبناء والتشييد، وبرامج اعادة الاعمار.
يستحوذ قطاع الإسكان والمرافق والعقارات على موقع متميز في استرااتيجيات وسياسات وبرامج التنمية العمرانية في دول العالم المتقدمة والنامية نظرة لاهمينة الاجتماعية، و في تدوير عجلة القطاعات الانتاجية والخدمية. مند استقلال ليبيا (1952)، حظى قطاع الإسكان باهتمام كبير تفاوتت درجته من فترة لاخرى. تعاملت الدولة الليبية مع مشكلة الإسكان الخانقة بتروٍ وحكمة؛ فتعاقدت مع بيوت خبرة عالمية متخصصة لإجراء دراسات ومسح شامل لواقع الإسكان والمرافق في ليبيا، أهمها دراسة مؤسسة دوكسيادس (1963). وثقت الدراسة الواقع السيئ للبيئة السكنية والعمرانية، ورصدت العجز التراكمي السكني بحوالي (137000 وحدة سكنية)، واقترحت استراتيجية وحزمة من السياسات والبرامج الإسكانية، اعتمدت على التدخل المباشر للدولة في قطاع الإسكان والمرافق، من خلال برامج الإسكان العام (الإسكان الشعبي)، والإقراض العقاري. نفذت الدولة مجموعة من مشاريع الإسكان العام في عقد الستينيات من القرن الماضي، أهمها مشروع إدريس السنوسي للإسكان الذي استهدف تنفيذ 100000 وحدة سكنية؛ 60% منها في المناطق الداخلية.
التغير السياسي في عام 1969 كان محطة تحول مهمة في تاريخ نشاطات الإسكان والمرافق، خاصة في عشر السنوات الأولى (1970-1981). اعتمد النظام السياسي استراتيجيات وسياسات وبرامج إسكانية أفقية شاملة وسريعة التنفيذ، لمواجهة الوضع الإسكاني البائس، ورُفع شعار “بيت صحي لائق لكل مواطن”. معالجة ساكني الأكواخ التي تحيط بالمدن الكبرى، وساكني الكهوف، والخيام كان من أهم البرامج الإسكانية التي مُنحت أولية من حيث سرعة التتنفيذ والمتابعة.
اعتمدت استراتيجية وسياسات الإسكان على التدخل المباشر للدولةDirect State. Intervention” “ (التزام الدولة بتوفير سكن لائق لكل مواطن) في قطاع الإسكان، من خلال تنفيذ مشاريع الإسكان العام، وبرامج الإقراض العقاري والتجاري الميسرة. وخلال عقد من الزمن، نجحت الخطط الإسكانية في رفع نسبة السكان الحضر، وتنفيذ ما يزيد عن 120000 ألف وحدة سكنية. المحصلة تحقيق نجاح متميز في الحد من حجم الأزمة السكنية.
نتيجة انهيار أسعار النفط، وتراجع إيراداته مع بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، راجعت الدولة استراتيجياتها وسياساتها الإسكانية، وقررت تبني استراتيجية إسكانية جديدة في عام 1985، أهم منطلقاتها أن الدولة لم تعد ضامنا مباشراً للسكن، وأن دورها يقتصر على مساعدة المواطن لتمكينه من بناء مسكنهIndirect State. Intervention” “. ألغيت أمانة (وزارة) الإسكان، واعتمدت مجموعة من برامج القروض السكنية الميسرة والتجارية(Housing Loans ). شهدت تلك الفترة تطبيق القوانين الاشتراكية ذات العلاقة بتملك المساكن، وإيجار العقارات السكنية، وإعادة تنظيم قطاعي التجارة والمقاولات الليبي، وإعادة هيكلتهما وفق الرؤية الاشتراكية التي لعبت فيها الشركات والمؤسسات العامة الدور المحوري في النشاطات الاقتصادية والإسكانية والعمرانية.
كان لتغيير استراتيجية الدولة من التدخل المباشر في قطاع الإسكان والمرافق إلى استراتيجية الدعم غير المباشر، مع غياب سياسات وبرامج فاعلة للقطاع الأهلي/الخاص تأثير سلبي على الوضع الإسكاني خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. توقفت الخطط والمشاريع الإسكانية، وانخفض معدل النمو السنوي في عدد الوحدات السكنية لأدنى مستوى، مقارنة بما وصل إليه في عقد السبعينيات، وهيمنت الشركات الأجنبية الوافدة على نشاط مقاولات وتنفيذ المشاريع الإسكانية والعمرانية، وعزف القطاع الخاص/الأهلي عن الاستثمار في المشاريع الإسكانية نتيجة القوانين الاشتراكية ذات العلاقة بالملكية وإيجار المساكن.
مع نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي تأزم الوضع الإسكاني مرة أخرى، ولاحت في الأفق بوادر أزمات اجتماعية وسياسية، نتيجة لفشل السياسات والبرامج السكنية الداعمة التي تم اعتمادها. تأخر تنفيذ المشاريع الإسكانية نتيجة لعدة عوامل، أهمها تأخر دفع مستخلصات الشركات. وأمام الضغوط الاجتماعية التي فرضتها الأزمة السكنية اضطرت الدولة للعودة للتدخل المباشر في قطاع الإسكان والمرافق، فأنشئت وزارة الإسكان والأشغال العامة في العام 1991، واعتمدت الدولة استراتيجية وسياسات وبرامج إسكانية متداخلة، في محاولة للحد من زيادة تدهور الوضع الإسكاني، وزيادة العجز التراكمي بالوحدات السكنية، واستكمال المشاريع الإسكانية المتوقفة، وكان طرح فكرة مشروع البيت الاقتصادي (Low Income Housing Project)، ومشروع الإسكان الاستثماري (Investment Housing Projects & Home Loans) من أهم السياسات الإسكانية في تلك الفترة، إضافة إلى برامج الإقراض الميسر.
نتيجة لما عُرف بتسميته أزمة لوكوربي (1991-2003)، والحظر الجوي والاقتصادي الذي فُرض دوليا على ليبيا، أرغمت الدولة على التقليل من اهتماماتها بالمشاريع التنموية بشكل عام، والمشاريع الإسكانية بشكل خاص، فألغيت وزارة الإسكان مرة أخرى، وشهدت البلاد خلال تلك الفترة ركوداً اقتصادياً وشللاً تنموياً شاملاً زاد من تفاقم وحدة أزمة الإسكان والمرافق.
حدة الأزمة الإسكانية وتداعياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بدأت تكشر عن أنيابها مع بداية النصف الثاني لعقد التسعينيات من القرن الماضي، وتحولت لظاهرة ضغط اجتماعي على الدولة، ما اضطرها إلى إعادة الانخراط المباشر في قطاع الإسكان والمرافق. فأنشئت الهيئة العامة للإسكان في منتصف عقد التسعينيات. أعدت الهيئة استراتيجية وخطة إسكانية لعام 2015، لمواجهة العجز التراكمي في عدد الوحدات السكنية، وتعويض الفاقد من الرصيد السكني. اقترحت مجموعة من السياسات والبرامج الإسكانية، وقنوات التمويل، أهمها برنامج الإسكان الاستثماري (60 الف وحدة سكنية)، وبرامج الاقراض السكني والتجاري الميسر. كما سبقت الإشارة، ظلاً لأزمة لوكربي وتزامنها وتقاطعاتها مع حروب وأزمة الخليج، وتداعياتهما أربكت القرار السياسي، وشلت التفكير والجهد التنموي، لدى راسمي السياسات، فألغيت الهيئة العامة للإسكان، وأسندت عملية الإشراف ومتابعة قطاع الإسكان والمرافق لعدة جهات عامة، وللسلطات المحلية (الشعبيات). أدى ذلك إلى زيادة تفاقم الأزمة الإسكانية، وتشتث الخبراء والمختصين والمعرفة والخبرة المتراكمة في قطاع الإسكان والمرافق، وضياع الأرشيف الفني لقطاع الإسكان والمرافق.
يبدو جليا مما سبق أن استراتيجيات وسياسات الإسكان التي تم اعتمادها وتطبيقها في ليبيا، مند استقلالها وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، تميزت بالتذبذب ما بين التدخل المباشر، والتدخل غير المباشر للدولة في نشاطات قطاع الإسكان والعقارات. نجحت الدولة الليبية في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في تحقيق نجاحات وقفزات مميزة في التصدى لمشكلة الإسكان والمرافق والتخفيف منها، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في التخطيط وإدارة الأزمة السكنية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، نتيجة لأسباب اقتصادية وسياسية، وعدم وجود رؤية أو إرادة سياسية لمواجهة الأزمة الإسكانية، وغياب استقرار الهياكل والمؤسسات ذات العلاقة بقطاع الإسكان والمرافق. وهكذا ودعت ليبيا القرن العشرين، ودخلت القرن الواحد والعشرين بأزمة إسكانية حادة، وعجز تراكمي مرعب من الوحدات السكنية، واختناقات في قطاع الإسكان والمرافق. في المقال القادم سندرس إن شاء الله ونحلل استراتيجيات وسياسات الإسكان في العقد الأول والثاني من القرن الواحد والعشرين.