بعد ستِّ سنوات عجاف .. هل أسقطنا النظام أم الدولة !!؟
بقلم د.وفاء الشيخي
المراقب لأوضاع الدول العربية في الخمسة عشر عامًا الماضية، يرى بوضوح مدى انسداد الأفق، وانعدام الثقة، وتعميق الهوّة بين الشعوب وحكامها وأنظمتها، التي ضيعت الحقوق وأزهقت الحريات، وأبدعت في سياسة الإذلال والتهميش، وتسابقت في فنون القمع والظلم الذي وصل إلى مداه ومنتهاه، حيتانٌ ابتلعت المال والثروة، واستحوذت على الحكم والجاه والسلطان، وألقت بالمواطن الكادح في غيابات الفقر والعوز والدونية، فضلاً عن السجون والمعتقلات، التي امتلأت حتى غصت بمن فيها، تحوي وراء أسوارها حكايات وروايات عن قتلٍ للإنسانية، ووأد للحرية، بأدوات إجرامية لا أخلاقية، وحقائق كارثية، ونهايات مأساوية، لأرواحٍ نقية، ودماء زكية.
الأمر الذي جعل الشعوب غير قادرة على الاستمرار في الخنوع والخضوع والاستكانة والاستسلام والصمت، ووصل بها إلى الدرجةِ التي لم تعد تطيق معها الظلم والاستبداد. وقد كانت توقعات المراقبين والسياسيين والمحللين للمشهد تنبئ بحدوث ضغوطات شعبية كبيرة على الحكام للتغيير والتحسين والقضاء على البطالة والفساد، والمطالبة بحياة كريمة، وعدالة اجتماعية، ولكن لم يكن من المتوقع خروج ثورات وحراك شعبي عارم، بهذا الشكل، وفي هذا التوقيت، رغم أن الهشيم الذي أعده الدكتاتوريون والطغاة كان جاهزًا، وينتظر شرارة صغيرة ليندلع الحريق ويمتد، برغم محاولات كثيرة لإشعاله لم تنجح في الماضي، حتى جاءت تلك اللحظة التاريخية الفاصلة، التي التقت فيها إرادة الله مع رغبات الشعوب، فكانت نقطة تحوُّل خطيرة ولحظة حاسمة عظيمة، استيقظت فيها الشعوب من سباتها، ونفضت عنها غبار السلبية.
ففي ليبيا انطلقت في يوم 15 فبراير تظاهرة شعبية، إثر اعتقال محامي ضحايا سجن بوسليم السياسي المدعو فتحي تربل في مدينة بنغازي، فخرج أهالي الضحايا ومناصروهم لتخليصه، وارتفعت الأصوات مطالبة بإسقاط النظام والتّخلص من القذافي، ما دعا الشرطة إلى استخدام العنف ضد المتظاهرين، فازداد الغضب والاحتقان، حتى امتدت المظاهرات في كل المدن الليبية، وتحولت إلى ثورة شعبية عارمة. وفي مصر كانت الأحداث مع خالد سعيد والشباب الذين خرجوا للمطالبة بالعدالة الاجتماعية. وفي سوريا تم قص شعر معلمة ابتدائي في درعا على مرأى من طلابها الصغار، الذين خرجوا في اليوم التالي متظاهرين تعاطفًا مع معلمتهم. وفي تونس كانت واقعة البوعزيزي الذي أحرق نفسه وأنهى حياته، فأحرق معه الخوف والذل والتسلط، وأنهى حقبة من الظلم والاستبداد والطغيان، فاندلعت الثورة التونسية، وكانت شرارة البدء التي أشعلت الثورات في بقية الدول العربية.
هذه الثورات التي تسمى بالربيع العربي كانت في بداياتها تعكس نوايا حسنة، ومطالب شرعية، تتطلع إلى الأفضل والأحسن في بناء مستقبل الإنسان والأوطان، وحفظ حقوق الأجيال القادمة، والرقي بالبنية الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية والسياسية والمعرفية، وتمارس الديمقراطية، وتكفل المساواة والعدالة في الحقوق والواجبات، وتحقق الكرامة والحرية .
ولكن للأسف هذه الثورات خُطِفت، واغتالتها قوى أجنبية خارجية، ساعدتها أيدي عميلة متآمرة جاهلة، وأخرى داخلية خائنة، أفشلت تلك الثورات، وجردتها من معانيها وأهدافها التي قامت من اجلها .
هذا الربيع الذي كنا ننتظر زهْرهُ وثمارَه، تحول إلى خريف، تساقطت فيه أغلى الأرواح وفلذات الأكباد، وأثمن الكنوز والممتلكات، وعندما خرج علينا رئيس وزراء إحدى الدول العظمى في قناة عالمية قائلا: نحن مع التغيير الذي قامت به الشعوب، لكن بشرط أن نتحكم نحن في هذا التغيير، بما يخدم مصالحنا ومشاريعنا في المنطقة، اتضح مساره وخواره.
ولا يخفى على أحد ما كان يقصد هذا الأخير الحليف والشريك الرئيسي لأمريكا في حربها على العراق، فمصالحهم تعني تقسيم وتجزئة وتفتيت المنطقة بأكملها، وهذا ما نراه اليوم جليًا في خراب الوطن ودماره.
ومن أهم الأسباب التي ساعدت في عدم تحقيق أهداف الثورات وغاياتها السامية انعدام الإدراك والخبرة والقدرة لدى بعض صناع القرار ومتصدري المشهد السياسي، وجهلهم بقواعد اللعبة السياسة، وشراسة الصراعات الإقليمية والتنافسات الدولية، وعجزهم وضعفهم عن إدارة أوطان، تمتلك الكثير من الكنوز فوق الأرض وتحتها، غنية بالموارد الطبيعية والبشرية، وثروات نفطية وغازية، وأخرى سمكية، ومدن تاريخية أثرية، تصنع امبراطوريات سياحية، والعدو يمر بأزمة اقتصادية، وساساتنا يتصارعون على مكاسب آنية، ولُعاب الطمع يسيل من فم الغول وأيادي الوحوش تتسابق علينا أيهم يظفر بالوجبة الشهية .
غياب الوعي والرقي الفكري والمعرفي في المجتمعات، أسقط ورقة التوت عن قيم ومبادئ وأخلاقيات، ظننا أنها متينة ومتجذرة، فاتضح أنها هشة متهاوية، انهارت عند أول اختبار، وتكشفت عورات وأخلاقيات، لم نعتقد يومًا أننا سنراها في شعوب تربت على الشهامة والمروءة العربية، والمبادئ والقيم الإسلامية .
انهيار منظومة القيم ورسوخ حالة الفكر الواحد في أشخاصٍ يعتلون مؤسسات تساهم في خراب الأوطان، أعادت إلينا إنتاج روح الدكتاتور، التي تجسدت في دكتاتوريات جديدة أكثر عددًا وأشد استبدادًا، وأعتى فسادًا، همُّها الاستئثار بالسلطة والثروة والمناصب والمال والجاه، حولوا أوطاننا إلى أسلاب وغنائم، يتقاتلون عليها، ويتنافسون للظفر بها، فتكاتفت جهودهم على إسقاط الوطن بدلاً من إقامته، ونسفوا كل الغايات السامية التي قامت من أجلها الثورات، وضيعوا دماء الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم وأنفسهم، من أجل إقامة وطن حرٍّ أبي كريم عزيز، كانوا يحْلمون به لأبنائهم، فوأدوا الحلم في مهده، وباعوا الوطن بأبخس الإثمان، ونصبوا له المحارق والمشانق، وتلاشت أحلام البسطاء على مقاصل السفهاء، وتمنى البعض لو أن الزمن يعود للوراء، لا ثورة ولا قتال ولا أشلاء، فإن كان ما فعلناه هباء وغثاء، فلماذا أسقطنا أعتي الطغاة؟
نعم كانت معركتنا الأولى ضد الطاغية، والثانية كانت ضد أنفسنا. نجحنا في الأولى وانهزمنا وفشلنا في الثانية، فمرحلة الثورة تحتاج قوة غضب، أما مرحلة الدولة فتحتاج قوة عقل وحكمة ورشد وثبات، وهو ما نقتقده مع ساسة لم نر منهم إلا سيلاً من الإخفاقات والفشل والإجرام والسرقات، بدلاً من العطاء والإنجازات، جرعوا المواطن كؤوساً من الخيبات، شردوهم فرادى وجماعات، جوّعوهم وأذلوهم في طوابير الخبز والأقوات، ومصارف خالية من الدينار والعملات .. لا ماء، لا كهرباء، لا غذاء، لا علاج، لا دواء، وضاعت أحلامنا آهات وحسرات .
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه الأحداث وسرقة الثورات وراءها قوة خفية لا تريد للمنطقة الإسلامية والعربية أن تتقدم، أو تخرج من أزماتها، وتصنع حضاراتها، وتظل غارقة في جهلها وسباتها، فما أن نطفئ حريقاً في مكان ما، حتى تشعله في مكان آخر، أم نحن من صنعنا الأزمات، عندما تفرقنا أحزاباً وجماعات، لكلٍّ منها أجندة وأهداف وأيديولوجيات؟ أم كلهن معًا متلازمات؟
هذا العدو الخفي الظاهر، عرف نقاط ضعفنا، وضحالة تفكيرنا، وقلة وعينا، واستغلها في زيادة الشُّقة بيننا، فلم يأل جهدًا في زراعة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، تارة بين السنة والشيعة، وتارة بين طائفية وإثنية وعرقية، كما حدث في العراق وسورية، وأخرى قبلية وجهوية ومناطقية كما حدث في ليبيا واليمن وتونس وغيرها من دولنا العربية. كم كان بارعًا في استغلال الذاكرة التاريخية المتوترة بين القبائل والمناطق والعشائر في تمزيق النسيج الاجتماعي، لتكون أهم العقبات في وجه بناء الدول وتشييد الأوطان. أفشى الفوضى الدموية والبغض والحقد والكراهية، وقام بتوظيف امبراطوريات إعلامية ضخمة بمليارات الدولارات من أجل تكريس هذا التفتيت الطائفي والجهوي والقبلي لمصلحته وأغراضه الدنية، بالإضافة إلى ما أطلق عليه الغرب “الإرهاب” وألصقه زوراً وبهتاناً بالإسلام، والإسلام منه براء، وقد انتشرت خلاياه الخبيثة في معظم الدول العربية والإسلامية، تمارس الإفساد باسم الدين، وهو لا ملة له ولا دين، يتخفًَّى، زيفًا وكذبًا وبهتانًا، تحت عباءة الإسلام، لا يعرف مرتكبوه حلالاً ولا حراماً، يموله اللائم ليغرِّر بشبابنا ويبيع لهم الأوهام، ويملأ عقولهم بالأفكار التي تهدم ولا تبني، تُخرّب ولا تُعمِّرُ. وهناك الكثير من علامات الاستفهام: مِن أين جاءوا؟ ومَن يموّلهم؟ ومَن يمدّهم بالسلاح؟ ومن يُخرجُ لهم تلك الأفلام الهوليودية لأفعالهم الإجرامية؟
وأفواج الهجرة غير الشرعية في قوارب الموت الجماعية، يتخذها الغرب والقوى الدولية حجة للتدخلات العسكرية والسياسية، حجة في ظاهرها حماية لمصالحهم وأمنهم القومي، وفي باطنها دمار وهلاك وزعزعة أمننا وأهدافنا القومية، يتوغل يتعمق في مفاصلنا الرئيسة، لتصبح الدولة لادولة، وتعجز عن حماية حدودها وفرض هيمنتها وسيادتها الدولية، فهل ثارت الشعوب لتسقط أنظمة استبدادية أم تسقط دولاً وتزهق الهوية؟