مصالحنا القومية بين جشع السياسيين وغياب المتخصصين ..

الدكتورة وفاء الشيخي

بقلم د.وفاء الشيخي

إن مقومات النجاح لأي دولة تكمن في قدرتها على بلورة وتحديد مصالحها الوطنية الإستراتيجية، وتهيئة الأوضاع والظروف المناسبة لتحقيقها وتأمينها، وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على وضوح المصالح الإستراتيجية للدولة والتوافق الوطني عليها، في وجود فكر استراتيجي، ومنهجٍ مميز  للتخطيط الاستراتيجي.

هذا المنهج الذي يتم من خلاله وضع إستراتيجية وطنية، تتضمن التحليل الإستراتيجي، و تحديد المصالح الإستراتيجية، ومن ثم اختيار التوجه والمسار الإستراتيجي، وتحديد البدائل، ويحقق الترابط والتناسق بين الأهداف الإستراتيجية والمرحلية والأهداف قصيرة المدى، كما يُعنى بإيجاد الترابط والتناسق بين الأهداف والتشريعات، والسياسات الإستراتيجية، ويحقق التكامل بين كل منها بما يضمن توحيد المجهودات في اتجاه بلوغ  الغايات الوطنية بأفضل الوسائل والتكاليف في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتحديد المهددات والمخاطر والفرص، والإلمام بآخر التطورات محلياً وإقليمياً ودولياً.

ومن أهم القضايا التي تشغل المفكرين الإستراتيجيين في هذا الموضوع هو كيفية التأسيس لسيادة ” نظام الدولة” لتحقيق المصالح الوطنية ، لأن غياب نظام الدولة يعني سيادة نظام الأفراد وتحقيق المصالح الشخصية والحزبية ، وهنا يكمن الخطر، إذ أن عدم وجود ترتيب استراتيجي سياسي متقن يعني تمرير أجندات أجنبية مقابل مصالح أفراد أو قيادات أو أحزاب .

ولا زالت العديد من الدول تعاني من طغيان المصالح الشخصية أو التنظيمية على المصالح العامة، لغياب ضوابط وترتيبات تسيطر على الخلل المتعلق بالسلوك البشري أو الحزبي المحب للسلطان والجاه والمال، الأمر الذي  يجعل الاستراتيجيات مجرد خطوات على ورق، توضع في الأدراج  ولا تخرج إلى حيز التنفيذ، وتقع المصالح الوطنية رهن سلوك وتصرفات أفراد تهدد الأمن القومي وتعطل المصالح، وتأسس بيئة مناسبة لانتشار الفساد.

لهذا اهتم علم الاستراتيجية السياسية بتهيئة الأوضاع التي تؤسس لسيادة نظام الدولة بما يضمن تحقيق المصالح الوطنية، ويمنع سيطرة أي أنظمة أو أوضاع أخرى تقود لتحقيق مصالح شخصية أو تنظيمية أو تضعف الإرادة الوطنية التي تنفذ الاستراتيجية القومية، مثل تحديد السلطات وتحديد الزمن لممارسة هذه السلطات وإعمال الأنظمة الرقابية الصارمة، والتأسيس لتحقيق القيم والحريات، ووضع ضوابط تحكم الخدمة المدنية وتفعيل سيادة القانون والنظام، وغيرها مما يَحُدُّ من انفلات الرغبات الشخصية أو الحزبية.

ومن أهم الترتيبات التي تمنع الفساد واختراق الإرادة الوطنية هو العمل على تطوير  وتأمين مركز صناعة القرار الاستراتيجي الوطني، وإتقان الممارسة البرلمانية ، لضمان تنفيذ المصلحة الوطنية والقدرة على إدارة الصراع والتنافس الدولي، وإيجاد آلية تضمن توفير الإسناد المعرفي الكافي لأي قرار استراتيجي، كذلك تأمين القرار الوطني من فرض التأثير الأجنبي الذي قد يتم بالترغيب أو الترهيب، بالإضافة إلى تأثير المصالح الخاصة .

ومن أهم  وسائل تعزيز القدرات لتحقيق المصالح الإستراتيجية للدول هو  ارتكازها على السند المعرفي، وخبرة المتخصصين والخبراء، وإذا ما ربطنا بين شراسة الصراع الإستراتيجي على الساحة الدولية بكل تعقيداتها وغياب السند المعرفي والمعلوماتي، يتبين لنا خطورة اتخاذ القرارات الفردية التي تعتمد على الخبرة الشخصية المحدودة للقيادي المعين، وتتضح الخطورة أكثر عندما تدخل الدولة هذا الصراع بآراء وقرارات مزاجية وفردية لقادتها دون حساب النتائج، هذا الأمر  تسبب في تعطيل وتهديد مستقبل دول عديدة في العقود الماضية، ومازلت تعاني حتى الآن.

لذلك وجب تعزيز وتطوير مبدأ الشراكة بين السلطة العلمية المتخصصة والسلطة الشعبية والسياسية، والعمل المؤسسي، وتشكيل جهاز خبراء للدولة في كافة المجالات، يتولى تنفيذ القرار السياسي وفق منظومة علمية ومعرفية متخصصة إلى جانب المنظومة القانونية .

وهذا ما دأبت عليه العديد من الدول المتقدمة حيث جعلت كل المخزون المعرفي للدولة مسخراً بصورة أو بأخرى لصالح القرار السياسي أو التنفيذي المتعلق بإدارة المصالح الاستراتيجية، إلى جانب سيادة القانون، و انتشرت مراكز البحوث والدراسات في مختلف المجالات، لتساند وتدعم الحكومات والوزارات والأحزاب في اتخاذ القرارات السياسية والإستراتيجية الصائبة ، الأمر الذي تفتقر إليه معظم دولنا النامية .

كما تفتقر إلى الفكر الاستراتيجي الحقيقي،  والخبراء المتخصصين  الذين أُبعدوا عمدًا أو قسرًا، إلى جانب إهدار  الأموال والإمكانات والموارد العامة في خدمة مصالح  وأهداف شخصية وحزبية ، الأمر الذي أدى إلى ضياع البوصلة، فضاعت أحلامنا الوطنية، ومصالحنا القومية .