رأس المال الوطني ودوره في معركة البناء
بقلم د. يونس فنوش
ربما يبدو هذا السؤال للبعض غريباً وغير وارد أصلاً؛ من جهة أن رأس المال يقترن عادة بالمصلحة الشخصية المباشرة، وأن صاحب رأس المال يسعى أساساً لتنمية ماله وتحقيق أكبر عائد وربح ممكن، لتوفير عيش مرفه له ولعائلته بوجه خاص، وربما لبعض أقاربه وذوي رحمه، إن كان من أولئك الذين يوجد لديهم ذلك الإحساس بهذه القيمة، قيمة صلة الرحم، ومودة ذوي القربى.
بيد أننا لن نحتاج للذهاب بعيداً للبحث عن أمثلة حية لأنماط متنوعة من الأدوار الإيجابية التي قام بها رأس المال في كثير من البلاد، متجاوزاً حدود المصلحة الشخصية المباشرة، إلى خدمة المصلحة الوطنية العامة، فيكفينا أن نلقي نظرة على بلادنا في الماضي والحاضر، لنجد من تلك الأمثلة ما يبعث على الفخر والاطمئنان.
وإننا نذكر بكل فخر وتقدير ذلك الدور الرائع الذي قام به عدد من ميسوري الحال، أو إذا شئنا الدقة أصحاب الأموال والثروات، في القيام بمبادرات لإنشاء أعمال ذات طابع أهلي خيري تطوعي، أو دعم مؤسسات اجتماعية، أو نصرة قضايا وطنية وقومية. وإذا كانت الأجيال التي ولدت ونشأت بعد انقلاب 69 لا تذكر شيئاً عن هذه المبادرات الجليلة، وتلك الأعمال الوطنية الرائعة، فإن الأجيال التي سبقت تلك المرحلة، وعاشت الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية، ثم عهد دولة الاستقلال، تذكر جيداً تلك النماذج المذهلة من مبادرات أصحاب الأموال والأثرياء آنذاك لدعم العمل الخيري التطوعي، وبذلوا أموالهم بسخاء وأريحية تستحق الذكر والثناء. وإننا نذكر بكل إعجاب وفخر ذلك الرجل الذي كرس حياته لرعاية أبناء شهداء الثورتين الجزائرية والفلسطينية، المرحوم يوسف مادي، وما زالت الشواهد على أعماله موجودة في الأردن، ولا أدري إن كانت المدرسة التي أسسها في طرابلس لرعاية أبناء شهداء الثورة الجزائرية ما زالت باقية، أم أنها طويت في ذاكرة التاريخ. ونذكر أيضاً بكل اعتزاز الأستاذ محمد العالم حويو مؤسس مدرسة العمال الليلية، تلك المدرسة التي أنقذت أجيالاً كاملة من أبناء الوطن من ربقة الأمية، وأتاحت لهم فرصة لا تقدر بثمن لمواصلة تعليمهم، وأثرت الوطن بنخبة من خيرة أبنائه الذين تولوا مختلف المسؤوليات، وقاموا بالجليل من الأعمال. ثم نذكر أيضاً الحاج علي زواوة والحاج عبد العزيز العنيزي والحاج عبد الحفيظ شمسة، ونذكر الحاج محمد حشاد الذي ظل حتى آخر حياته –رحمه الله-يبذل ماله وجهده لخدمة ورعاية دور الرعاية.
وقد أثبتت ثورة 17 فبراير أن هذه الروح الرائعة لم تمت لدى أبناء شعبنا العظيم، إذ شاهدنا كيف بادر أصحاب الأموال منذ اللحظات الأولى للثورة للتبرع بأموالهم بسخاء مذهل لدعم مختلف مجالات العمل المدني والاجتماعي، ثم لدعم العمل الحربي. وكان أبناء الوطن، يتبارون في ذلك ويتنافسون، سواء منهم المقيمون داخل الوطن أو في مختلف بلاد الدنيا.
والآن بعد أن ألقت الحرب في المعركة الأولى أوزارها، وعدنا لنباشر المعركة الثانية، أي معركة البناء، فهل نشهد انحساراً في دور رأس المال الوطني، باعتبار أن العبء يقع الآن على عاتق الدولة، وأن الدولة لها إمكانات كافية، وليست بحاجة إلى دعم أو مساهمات من المواطنين؟
أنا أحسب أن هذا سيكون منطلقاً خاطئاً، وأرى أن رأس المال الوطني ما زال وسيظل بإمكانه أن يلعب أدواراً مهمة في دعم وتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية التي نحلم بها، وذلك من خلال دعم أو تأسيس المبادرات لتطوير مختلف فعاليات المجتمع المدني، ونعني بها المنظمات التطوعية الأهلية غير الربحية، والأحزاب السياسية، ووسائل الإعلام المستقلة.
وإني أدرك تماماً أن هذه الدعوة، وبخاصة فيما يتعلق بجزئية دعم الأحزاب السياسية، سوف تقابل لدى الكثيرين بالرفض والاستنكار، استناداً إلى قناعة موجودة لدى شريحة كبيرة من المواطنين، ولا يستثنى منهم حتى أولئك الذين يفترض أنهم محسوبون على النخبة المثقفة، بأن الأحزاب السياسية هي تجمعات أو مؤسسات لا هدف لها إلا السعي إلى السلطة، وأنها تسعى إلى السلطة من أجل خدمة مصالح خاصة أو شخصية لزعمائها أو لمن يعملون في أطرها.
ولئن كان هذا الكلام يصدق على عدد من الأحزاب السياسية، لا ندري قليل أو كثير، إلا أني أرى أن من الإجحاف والبعد عن الموضوعية تعميم الحكم على كل مفهوم الحزب السياسي من حيث هو. ذلك أن ثمة أحزاباً سياسية، وإن كانت لا تنكر أنها تسعى إلى الحصول على مواقع لممارسة السلطة، سواء في المؤسسة التشريعية أو التنفيذية، فإنها تقول إنها لا تعد السلطة غاية في حد ذاتها، أو مغنماً شخصياً، ولكنها تعدها مجرد وسيلة لتحقيق برامج الحزب التي يعدها من أجل المساهمة في خدمة الوطن ومصلحة المواطنين العليا.
وتبقى هذه دعوة قوية لأن نشاهد رأس المال الوطني يواصل مساهماته في دعم مساعينا جميعاً لتأسيس الدولة المدنية الديمقراطية المزدهرة.