ردة

د.نجيب الحصادي

بقلم د.نجيب الحصادي

قلت ذات مقالة “إن زيت الوجع الأليم الذي ما فتئ لعقود يقض مضاجع الليبيين وَقود لا ينفد سوف يظل يذكي لأجيال قادمة جذوة الحرية، ويبدد كل ما يلقي بعتمته في دربها؛ وعلى كل من تحدثه نفسه بأن ثورة فبراير قد تفشل في مواجهة ما تلقاه من تحديات أن يتذكر أن من رأى قباب النور لن يقوى على العيش ثانية في أقبية الظلام”.

ولأن ثمة من أصبحت أنفسهم تسول لهم العيش ثانية في أقبية في الظلام، يثور السؤال ما إذا كانوا، بكفرهم البوّاح بثورة فبراير، قد أساءوا التوقع، أم تراني، بإيماني بها، قد أسأت التقدير.

إذا كانت انتفاضة فبراير ثورة قامت على منظومة قيمية معطوبة، وتبشر بمجتمع يسوده العدل والأمن الرخاء، فإن التخلي عنها تخل عن مبادئ ناضلت وتناضل من أجلها شعوب الأرض بأسرها. وإذا كانت الأوضاع غير المواتية التي تمر بها البلاد تجعل منا صرعى حنين لعهود الفساد والاستبداد، فإننا نغض الطرف عن حقيقة أنه ما كان لنا أن نمر بما نمر به من فساد واستبداد لولا المنظومة القيمية المعطوبة نفسها التي قمنا بالثورة عليها. ذلك أن تلك الأوضاع ليست راهنة مصادفة، بل حصاد أشواك بذرها شخصيا من أصبح البعض يحنون إليه.

“محررو الأمس طغاة اليوم”؛ هكذا يقول فردريك وايزمان. “لا تحلموا بعالم جديد، فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد، وأحلام بلا جدوى، ودمعة سدى”؛ هكذا يحذرنا أمل دنقل. فهل ترانا استبدلنا طغاة بطاغية؟ ولكن أليس الطغاة الجدد نسل طاغيتنا القديم؟ ألا تعيد المنظومة القيمية التي حسبنا أننا استعضنا بها عن سالفتها إنتاجَ سالفتها؟ وإذا لم ننجح في التأسيس لعهد جديد، فكيف نحنّ إلى عهد غبر؟ كيف نعلن الردة عن ثورة لم تقم بعد؟ أم ترانا حسبنا أن القضاء على منظومة الاستبداد والفساد لا يتطلب سوى التضحية بالأرواح والذهاب عشية التضحية بهم إلى صناديق الاقتراع. “أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ“.

فليحنّ إلى عهد الاستبداد من يحنّ إليه، فبعضهم بعض منا، ناضلوا معنا، وآمنوا بثورتنا، لكن أقدامهم خذلتهم قبل أن يكملوا المسير. أما نحن، فسنقبض على جذوة الحرية، وسنوقد منها شعلة تنير ظلامنا. لا نعاني من أي أوهام حول قدر العتمة التي تلف بنا، فالواحد منا لا يكاد يرى الآخر. غير أنه ليست لدينا أوهام حول وجهتنا. أما توقنا الأزلي للانعتاق من كل ما يكبل البشر، جسدا وروحا وفكرا، فلن نتخلى عنه، وسوف نحقق، طال الزمن أو قصر، نبوءة شاعرنا محمد الشلطامي في لحده: “حبنا لا بد أن يزهر، والليل البهيم، خلفه أضواء الصباح؛ وليكن، لا بد من أن يعتم الليل، وأن تعوي الرياح، مرة في كل سهل وجبل؛ سوف نمضي فوق كف الموت يا هذي الجراح، بطلاً إثر بطل؛ عدتي في ساحة الحرب قصيدة، وأغان قالها العمال في كل بلد؛ “يسقط الفاشست” وليمض الزمن؛ يا مسوخ الهتلريين القساة”.