لطالما أحتفظ الشعب الليبي منذ نيله الاستقلال، ومرورا بكل المراحل السياسية التي صاحبت قيام الدولة، ووصولا إلى انتفاضة فبراير 2011م، بآمال عريضة وطموحات عالية وتوقعات مرتفعة حول تحقيق الديمقراطية وسيادة القانون، وبناء دولة عصرية تنجز التنمية الشاملة، وتقضي على التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتصون الحقوق السياسية والمدنية والحريات العامة. ولكن سرعان ما تبخرت الآمال وتبددت الطموحات وانهارت التوقعات، ودخلت ليبيا في نفق مظلم من الصراعات المسلحة والنزاعات السياسية والتوترات الاجتماعية والخلافات الجهوية، وبدا أن حلم بناء الدولة المدنية الديمقراطية بعيد المنال، بل أصبح الحفاظ على كيان الوطن ذاته ووحدته معرضا لخطر حقيقي وداهم.

الراهن أن كل هذه التحديات والمشاكل والأزمات هي عبارة عن أعراض ومظاهر لأزمة أكثر عمقا وخطورة، فجميعها ناتجة عن عجز النخب السياسية والاجتماعية عن بلورة رؤية مجتمعية مشتركة حول ما الذي تعنيه ليبيا ا؟ وما يجب أن تكون عليه؟ وما الذي يعنيه مفهوم الدولة الديمقراطية المدنية؟ وما مضامين حقوق المواطنة؟

ويمثل مشروع بلورة هذه الرؤية الوطنية العامة والشاملة التحدي الأساسي الذي يواجه المجتمع الليبي، حيث إن غياب هذه الرؤية قد يؤدي إلى مزيد من الفوضى والتشرذم والصراع بين مختلف التيارات والأحزاب والجهات.

إننا نحتاج إلى عقد اجتماعي يتشكل عبر توافق جميع مكونات المجتمع الليبي دون إقصاء، يستند على رؤية وطنية شاملة ومشتركة، وينتج عنه دستور يعكس محتويات العقد ومضمون الرؤية، ويؤدي إلى تأسيس دولة تتمتع بشرعية حقيقية وقوية.

إننا، نحن الليبيين، أمام أحد مسارين: إما أن نستمر في صراعاتنا الضيقة، وفي لوم بعضنا البعض عن مآسي الماضي والحاضر وآلامهما، وفي تدمير مقومات العيش المشترك، وفي تفكيك مكونات الوطن الواحد؛ وإما أن نستمع لصوت العقل ونجلس جميعا معا، ونركز على بناء مستقبل أفضل، وعلى تأسيس دولة مدنية ديمقراطية قائمة على سيادة القانون والتسامح وعدم الإقصاء.

وينطلق مشروع رؤية 2030 من قراءة عميقة وشاملة لواقع أحداث الأعوام العشرة الأخيرة في ليبيا، وعلى وجه التحديد منذ عام 2008 الذي شهد صياغة مشروع رؤية ليبيا 2025 الذي تنبأ بشكل واضح، ومن خلال سيناريو استمرار الأوضاع الراهنة ودينامياته وتداعياته، “أن المجتمع الذي تحركه هذه الديناميات وما تفضي إليه من تداعيات، مجتمع محبط، يائس، مفكك، مغترب، مضطرب، تحكمه دولة ضعيفة، تابعة، ومخترقة، ومهددة.”

ويعد مشروع ليبيا 2030 امتدادا لمشروع ليبيا 2025 وتحديثاته في مشروع ليبيا 2040 الذي أعده مجلس التخطيط العام عام 2012. وبناء على ذلك، فإن هذا المشروع يتأسس على مفهوم الأمن الإنساني بأبعاده القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية، وما يستلزم من استحقاقات الانفتاح الثقافي، والتنمية المستدامة، والتنافسية، والحكم الرشيد، والمواطنة المتساوية، والسلم الاجتماعي، ومجتمع المعرفة.

وبحسبان أن الأحداث التي عصفت بالمجتمع الليبي منذ فبراير 2011 تلقي بظلالها القاتمة على الأوضاع الأمنية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإنه يتعين أن تتضمن غايات رؤية 2030 وأهدافها الإستراتجية أبعادا تتعلق بمعالجة تداعيات صراعات المرحلة الانتقالية، وأبعادا تتعلق ببناء الدولة المدنية والتأسيس لسيادة القانون وتحقيق الأمن الإنساني بكل أبعاده واستحقاقاته.

ولكي يتحول مشروع ليبيا 2030 إلى مشروع مجتمعي، يتعين أن يشارك في صياغته وتحديد غاياته ورسم أهدافه الاستراتيجية جميع مكونات المجتمع الليبي وأطيافه السياسية والاجتماعية ومؤسساته. ومن هذا المنطلق، ولذا يلزم عقد الندوات وحلقات النقاش والبرامج الإعلامية التي تسهم فيها هذه المكونات والأطياف والمؤسسات، بحيث يصبح ملكا مشتركا للجميع ويعملون على تحويله إلى واقع عيان.