المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية
بقلم د. يونس فنوش
منذ الأيام الأولى لاندلاع ثورة فبراير المباركة أخذنا نردد الهتاف الذي ينادي بليبيا “دولة مدنية“، ولم يلبث هذا التعبير أن صار شعاراً يرفعه الجميع دون استثناء، وإن ظل كثيرون لا يحيطون إحاطة شافية بمضمونه ومعناه من الناحية السياسية والعملية. ولعل من أولى وأهم سمات الدولة المدنية أنها تقوم على إرادة الشعب، التي منها تستمد الشرعية، ومنها تنبع السيادة. وبما أن الشعب هو مجموع المواطنين فإن الشعب ينبغي أن يكون هو صاحب الكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالشأن العام، بدءاً من اختيار من يكلفون بمسؤوليات الحكم المباشرة، في السلطة التشريعية، وفي السلطة التنفيذية، وفي السلطة القضائية، مروراً بمراقبة أداء هؤلاء ومحاسبتهم على ما قد يقعون فيه من أخطاء، أو ما يقعون فيه من انحرافات، وانتهاء بتقديم من يذنب منهم إلى القضاء والعدالة، وإقالتهم من مواقع المسؤولية وتكليف غيرهم.
وإذا كان دور المواطنين في اختيار المكلفين بالمسؤوليات العامة يتم من خلال الانتخابات، التي تجري دورياً، ربما كل أربع سنوات، فإن الدور الذي عليهم أن يقوموا به في مجال المراقبة والمحاسبة يظل قائماً طوال الوقت، وعليهم أن يقوموا به بأنفسهم، وألا يتخلوا عنه، تعويلاً على أن يؤدوه عنهم نوابهم في البرلمان.
وهنا يكمن السؤال المهم: كيف يتمكن المواطنون من أداء دورهم في الرقابة على أداء المؤسسات، رعاية لمصالحهم واحتفاظاً بحقهم المقدس في امتلاك الكلمة العليا والنهائية في الشأن العام؟
الإجابة عن هذا السؤال هي أن سبيل المواطنين لأداء دورهم هذا تتمثل في تفعيل مؤسسات المجتمع المدني: وهي لمن يريد المعرفة، تنقسم إلى نوعين أساسيين:
-
منظمات تطوعية غير حكومية لا تسعى إلى المشاركة في السلطة.
-
أحزاب سياسية تسعى للمشاركة في السلطة من خلال المؤسستين: التشريعية (البرلمان) والتنفيذية (الحكومة).
فمن خلال هذه المؤسسات يستطيع المواطن أن يمارس دوره في متابعة الشؤون العامة، ومراقبة أداء السلطات التشريعية والتنفيذية، عبر مختلف فعاليات وبرامج التوعية والتواصل مع الجمهور من خلال المحاضرات والندوات واللقاءات العامة، ومن خلال المنشورات والمطبوعات، والبرامج الإذاعية المسموعة والمرئية، ومن خلال تقنيات الاتصال الحديثة، في الشبكة العالمية والمواقع الاجتماعية.
ومن هذا المنظور فإن مؤسسات المجتمع المدني من منظمات وأحزاب سياسية تمثل ركيزة حيوية لبناء الدولة الديمقراطية، وهي ضرورية لبقاء البناء قوياً متماسكاً، وليست ترفاً أو اختياراً لنا أن نقوم به أو لا نقوم. وإني أتصور أنه سيكون من الحيوي لنا من أجل بلورة رؤية وطنية بعيدة المدى لإقامة البناء الديمقراطي أن نضع في صميم هذه الرؤية الموقع الجوهري الذي ينبغي أن يحتله المجتمع المدني، بحيث نحرص على أن ننص في صميم الدستور الذي سوف تبنى عليه الدولة فكرة دعم الدولة لمؤسسات المجتمع المدني من منظمات وأحزاب سياسية، حتى تتمكن هذه المؤسسات من الوجود على الساحة السياسية والاجتماعية، فيتيسر لها تنفيذ ما تخطط له من برامج وفعاليات، ونشر ما يتوفر لديها من بيانات ومعلومات تفيد الرأي العام، وتسهم في بلورة المواقف والآراء، وتفعيل أدوار المتابعة والمراقبة والمحاسبة.
ولذا فإننا ندعم بقوة مبدأ النص على دعم الدولة للمجتمع المدني، وتنويع أنماط هذا الدعم، بحيث يشمل الدعم المادي المتمثل في توفير مقرات مناسبة للعمل، والمساهمة بما يلزم لتجهيز هذه المقرات بالأدوات اللازمة المطلوبة، كأجهزة الاتصال والتواصل، وأجهزة تخزين البيانات والمعلومات، إضافة إلى الدعم المعنوي، بإتاحة فرص مناسبة ومتكافئة لمؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية في وسائل الإعلام المملوكة للمجتمع.
وإننا نرى أن مثل هذا التوجه سوف يكون ضرورياً لقطع الطريق أمام القوى المتربصة بالدولة، سواء أكانت قوى محلية أو قوى أجنبية، كيلا تتمكن من الهيمنة على مسارات العملية السياسية، فتوجهها، لا سمح الله، وجهة لا نرضاها لبلادنا ومستقبلها. وإننا سوف ندافع بشدة على مبدأ الحفاظ على نصاعة النسيج الذي سوف ننسج منه مستقبل بلادنا، ونظافته من أي شائبة قد تشوبه بشبهة الولاء لأي جهة غير وطنية، عربية أو إسلامية أو غيرهما.
ولكي نفعل ذلك علينا أن نحرص الحرص كله على ألا نلجئ أياً من قوى المجتمع المدني لمد يدها إلى أي قوة غير وطنية، تطلب منها الدعم والمساندة، فنمد إليها نحن يد بلادهم، فينهضون بالأعباء التي عليهم النهوض بها، من أجل رفعة الوطن وسلامة تأسيسه.